أظهرت زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى كييف العصبية والتوتر الشديدين اللذين أصابا الساسة الأتراك في الفترة الأخيرة.
اتسمت هذه الزيارة، التي التقى فيها أوغلو بعدد من مسؤولي السلطة في كييف على رأسهم رئيس الوزراء أرسيني ياتسنيوك، اتسمت بالعصبية والتوتر وعدم اللباقة السياسية أو الدبلوماسية. إذ اتهم روسيا مباشرة بأنها تتصرف في سوريا كمنظمة إرهابية. بل وتوعدها برد قوي في حال إذا ما واصلت، حسب رأيه، التصرف كمنظمة إرهابية ترغم المدنيين على الفرار.
رئيس الوزراء التركي ذهب إلى أن روسيا وتنظيم داعش في سوريا ارتكبا العديد من الجرائم ضد الإنسانية، ورأى ضرورة أن يتم النظر فيها في إطار القانون الدولي. وارتفع مستوى "الخيال" السياسي والعسكري لدى المسؤول التركي إلى أنه رأى أن النية الحقيقة لروسيا في سوريا هي "قتل أكبر عدد من المدنيين ودعم النظام السوري ومواصلة الحرب". ولم ينس رئيس الوزراء الإسلامي المحافظ توجيه أصابع الاتهام إلى دور موسكو "الفظيع"، فاتهمها باستخدام أكراد سوريا، مشيرا إلى أن "وحدات حماية الشعب الكردية هي حاليا وبصورة واضحة بيدق ضمن المساعي الروسية التوسعية في سوريا".
من الصعب التعليق أو الرد على مثل هذا الخيال الواسع، والتوتر والعصبية اللذين يتعارضان مع أي منطق. فأنقرة، بعد أن فقدت مصداقيتها مع شركاء كثيرين عقب إسقاطها القاذفة الروسية، وقعت في مأزق فقدان الثقة، الذي تحول بدوره إلى حالة من التطرف المَرَضي عبر تحركات وإجراءات جاءت في معظمها حادة ومفاجئة وبعيدة عن المنطق السياسي والدبلوماسي. وعلى خلفية تورطها في علاقات مع داعش ومنظمات إرهابية أخرى، وابتزاز أوروبا بإغراقها باللاجئين السوريين، وتسخين الأجواء باستعداء الناتو ضد روسيا، أصبحت تركيا تسير في اتجاه واحد، حارقة كل الجسور خلفها. بل وتغامر أثناء سيرها إلى الأمام باعتماد سيناريوهات تخالف التفكير السليم ومنطق العلاقات السياسية والدبلوماسية. وربما كانت زيارة داود أوغلو لكييف والإدلاء بتصريحات قصيرة النظر ضد روسيا، وتشجيع مجموعة الليبراليين الجدد في عدائهم لروسيا وللروس، ربما كانت أكثر إساءة لأنقرة نفسها عندما تضع نفسها جنبا إلى جنب مع المجموعة الحاكمة في كييف. بل وذهب داود أوغلو في تصريحاته إلى الإعلان عن دعم سلطة كييف، نكاية في روسيا ومواقفها، وتطرق إلى شبه جزيرة القرم ليخلط الأوراق بشكل مثير للسخرية والتساؤلات في آن واحد. وأكد في الوقت نفسه على أن أنقرة لن تعترف بما أسماه الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم.
في الحقيقة، تركيا تضع نفسها في مآزق تاريخية عندما تعتمد مثل هذه الأساليب السياسية البدائية التي لا تراعي تحولات المستقبل والتقارب بين الدول. إنها ببساطة تحرق الجسور ليس فقط مع روسيا، وإنما مع دول أخرى من أجل الأيديولوجيا الإسلامية المحافظة التي يعتمدها حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
إن المذابح التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد الأرمن في عام 1915 أصبحت جزء من تاريخ العلاقات الإنسانية والدولية، ولا يمكن أن تنكرها أي دولة. ومع ذلك فتركيا وريثة الدولة الزائلة لا تزال تنكر إنكارا مرضيا تلك المذابح، بل وتعادي الدول التي تعترف بها أو تشارك في إحيائها. ولا يستبعد مراقبون أن يكون التدخل التركي السافر في شؤون شبه جزيرة القرم الروسية، ردا صبيانيا على اعتراف روسيا بمذابح الأرمن ومشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إحياء الذكرى الـ 100 التي حضرها العديد من قادة وزعماء العالم في العاصمة الأرمينية يريفان في العام الماضي. هذا إضافة إلى ردود الأفعال غير المسؤولة لما تتخذه روسيا من إجراءات وخطوات جوابية على استهتار أنقرة وتصرفاتها التي يمكن أن تضر ليس فقط بروسيا ومصالحها، بل بأوروبا وأسيا الوسطى والشرق الأوسط أيضا.
لقد وضعت تركيا نفسها في لعبة أكبر منها، حتى وإن كان الغرب سيشجعها في البداية، ولكنه لن يقف إلى جوارها حتى النهاية الأليمة، مهما كانت عضوا في حلف الناتو. إذ أن اللعب في مسألة القوميات والديانات، سواء في أوكرانيا أو في شبه جزيرة القرم، قد يؤدي إلى عواقب لا يمكن أن تتخيلها أنقرة الأردوغانية، وأن ممارسات أردوغان الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط أمر مختلف تماما عنه في القارة الأوروبية التي يطمح للانضمام إليها، ولكنها تلفظه لأسباب كثيرة على رأسها العرقي والطائفي أيضا.
إن رئيس ما يسمى بـ "مجلس تتار القرم" مصطفى جميلوف اعتبر أن تركيا مستعدة لبحث توريد العتاد لأوكرانيا، كما أعرب عن أمله في أن يقدم الناتو على حصار شبه جزيرة القرم الروسية. واعترف جميلوف، في حديث أدلى به لصحيفة "أر بي كا" الروسية الأربعاء 10 فبراير الحالي، بقوله: "لقد نقلت قبل 3 أيام لوزير الدفاع الأوكراني رسالة من وزارة الدفاع التركية التي أشارت فيها إلى استعداد أنقرة بحث مسألة توريد العتاد اللازم لأوكرانيا". كما كشف عن زيارة مرتقبة لوفد عسكري تركي إلى أوكرانيا، مشيرا إلى أن توريد الأسلحة لهذا البلد يتطلب موافقة حلف الناتو، في حين يمكن لتركيا أن تزود أوكرانيا بأسلحة تركية الصنع لا تخضع لقيود التصدير الأطلسية.
جميليوف من مواليد القرم عام 1943. وكان ناشطا حقوقيا سوفيتيا ومدافعا عن حقوق تتار القرم الذين رحلتهم السلطات السوفيتية من أراضيهم إلى مناطق أخرى في الاتحاد السوفيتي بعد اتهامهم بالتعاون مع الاحتلال النازي للقرم إبان الحرب العالمية الثانية.
وبعد إعادة الاعتبار لتتار القرم وعودتهم إلى شبه الجزيرة، ترأس جميليوف مجلس تتار القرم في الفترة 1991-2013. وبعد عودة القرم إلى روسيا في مارس/آذار عام 2014 رفض جميليوف وقادة المجلس الآخرون خيار شعب القرم وانتقلوا إلى أوكرانيا ليجاهدوا من هناك. ومنذ ذلك الحين عمل جميليوف بصفته نائبا في البرلمان الأوكراني ومفوضا للرئيس الأوكراني لشؤون شعب تتار القرم. علما بأن تتار القرم في شبه الجزيرة لا يعترفون بجميلوف والمجموعة التي تعيش معه في كييف. كما أن تتار روسيا وهيئاتهم الشعبية لا يعترفون أيضا بـ "المجلس" أو بأي دور له في تقرير مصير التتار سواء كانوا في القرم أو في أي مكان في روسيا، ولا يقيمون معه أي علاقات أو اتصالات.
لقد قام جميلوف وأتباعه، بدعم من كييف وأنقرة، بمحاولات لإثارة القلاقل في شبه الجزيرة عن طريق ما أطلق عليه "الحصار"، إذ قام في البداية نشطاء موالون للمجلس، بمنع شاحنات البضائع الأوكرانية المتجهة إلى القرم من العبور إلى شبه الجزيرة، وبعد فشل هذه الخطة، أقدموا على تفجير أعمدة شبكة نقل الكهرباء التي تربط بين أوكرانيا والقرم، ما أدى إلى توقف توريد الكهرباء من أوكرانيا إلى القرم بالكامل. وبعد ذلك أعلن زعماء المجلس عن تشكيل كتيبة لتتار القرم في قوام الجيش الأوكراني بتمويل تركي معنية بتنفيذ "عمليات عسكرية" عند حدود القرم.
في ضوء تحركات جميلوف، أكدت المدعي العام في جمهورية القرم ناتاليا بوكلونسكايا إدراج مصطفى جميليوف الذي يعيش في أوكرانيا، ضمن قائمة المطلوبين للعدالة. وأوضحت أن المحكمة في مدينة سيمفيروبل، عاصمة القرم، قررت اعتقال جميليوف غيابيا وإدراجه ضمن قائمة المطلوبين. ولكن جميلوف مجرد بيدق يتم استخدامه من قبل كييف وأنقرة. وبالتالي، فالأهم، هم من يحركون الدمى ويغامرون بحياة ومستقبل شعوبهم، وبحياة ومستقبل شعوب أخرى. وذهبت النائب العام في القرم إلى المطالبة مؤخرا بوضع "مجلس تتار القرم" الذي تدعمه أوكرانيا وتركيا في قائمة المنظمات المتطرفة.
من الواضح أن الرئيس التركي أردوغان قد أدرك جيدا أن الغرب لا يمكنه أن يدخل حربا ضد روسيا من أجله ومن أجل خططه الإقليمية المتطرفة، فقرر التوجه إلى كييف ليجرب خلط الأوراق لعله يستثمر مغامرات المجموعة الحاكمة هناك والتي يدعهما صقور الولايات المتحدة وحلف الناتو لأسباب لا تتعلق إطلاقا بالتوجهات الإسلامية المحافظة لأردوغان وحزبه الحاكم في تركيا.
أشرف الصباغ
(المقال يعبر عن رأي الكاتب) |