الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   مقالات  

المتنبي يرتدي البوط العسكري.. والسيوف لا تشيب! / نارام سرجون
May 05, 2015 16:00

المتنبي يرتدي البوط العسكري.. والسيوف لا تشيب! / نارام سرجون

لا يهزم الإنسان إلا عندما يقر بالواقعية وبأنه واقعي ولا يجد أن من العيب رفع الرايات البيضاء المستسلمة.. فالاستسلام هو انتصار الواقعية.. لكن القتال حتى النهاية هو تمرد على الواقعية واستهزاء بها ورفض للاعتراف بها.. ولذلك لم أنتصر يوما إلا عندما قررت أن أسخر من الواقعية وراياتها البيضاء وشعاري كان دوما هو: "إما أنا.. وإما الواقع".. فأنا وإياه لا نجتمع على هدف ولا على عقيدة.. وكلانا لا يلتقيان معا كخطين متوازيين إلى الأبد.. لا في الزمان ولا في المكان..
وأنا لا أرى خطرا على الإنسان مثل واقعيته.. فإذا أردت الهزيمة في أي شأن ففتش عن الواقعية.. وإذا أردت النصر فعليك بأن تقول بأن الواقع هو الذي أقرره أنا وأريده أنا فقط.. ولذلك ورغم أنني أحب كل شعر المتنبي إلا أن شعره الذي يمثلني ليس مباهاته وخيله وليله وقلمه وقرطاسه فقط.. بل بيت من الشعر يقول:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه-------- ولو أن ما في الوجه منه حراب
الشيب هو راية بيضاء برفعها الجسد على أعلى ناصية فيه وتعلن استسلامه للواقع والزمن والعمر والدوران حول الشمس.. ولكن النفس العنيدة لا تعترف بما يعلنه الجسد ولا يدخل الشيب إلى تكوينها.. وفي فلسفة المتنبي وحكمته الرفيعة تتمثل عملية الصراع بين المادة والروح.. والتنافس الذي يترجم إلى صراع بين الواقع والواقعية من جهة وبين الحلم والطموح الشاهق من جهة أخرى.. وبين الموت والخلود..
الواقعيون يقدسون قانون الجاذبية لأنه رمز للواقعية المادية التي تمنع الجسم من الطيران طالما أنه بلا أجنحة.. ويقرّون أن الواقع لا يقهر كما الجاذبية لا تقهر.. ومن هؤلاء ينبجس أصحاب الخيارات الواقعية في الحياة والسياسة والحرب..
وهؤلاء الواقعيون هم الذين هزموا في كل الحروب اللامتكافئة.. وهم الذين قادوا الهزائم تلو الهزائم وأوهنوا الأمة.. وهؤلاء هم الذين أداروا لنا الصراع مع المشروع الصهيوني منذ مؤتمر بال في سويسرا الذي رأوا فيه قوة لا تقهر وواقعا لا يكسر.. هؤلاء الواقعيون هم العرب الذين قادوا عصر النكبة وحضّروا لنا النكسة وعصر ما بعد النكسة وكل الهزائم.. وهم العرب الذين خرجوا علينا بواقعية كامب ديفيد وواقعية وادي عربة وواقعية أوسلو وهم الذين أفرزوا الاعتدال العربي.. وهم العرب الذين يكتبون لنا كل يوم بواقعية في الجرائد والمجلات ويحدثوننا بواقعية الهزيمة في الفضائيات.. وهم الذين يعلموننا كيف نمسك الرايات البيضاء في الحياة وكيف لا نفكر حتى في الاستراحة من رفعها والتعب من الإمساك بها.. ومنهم خرجت الساداتية السياسية الواقعية بشعارها الشهير (الله!! هو احنا ح نحارب أمريكا؟).. ومنهم خرجت المدرسة الجنبلاطية التي تتبع الواقع وتقلباته كلما تغير الواقع وتغير رايات الاستسلام حسب كل زمان وكل فاتح للبنان.. وهؤلاء منتشرون هذه الأيام في كل مكان كالدجاج.. وصارت لهم مزارع كمزارع الدواجن من المحيط إلى الخليج.. لأن همم نفوسهم واقعية كواقعية الدجاج في مزارعه وأقفاصه والذي ضمرت أجنحته لأنه قرر ألا يطير وخشي أن يهوي ويتحطم لأن الواقع أقوى من الطموح.. وهل يحلم الدجاج بكسر أقفاصه والتمرد على أقداره التي تنتهي به على الموائد تحت رحمة السكاكين؟؟
أما من لا يؤمن بالواقع فهم أولئك الذين لا يحبون الرايات البيضاء.. ويحسون أن الطيران لا يحتاج إلى أجنحة بل إلى نفس لها أجنحة لا تعترف برايات الجسد البيضاء التي يرفعها الجسد شيبا ناصعا في الرأس.. هؤلاء الذين لا تشيب نفوسهم هم من يصنعون سير الأبطال التاريخيين بين البشر والأنبياء.. ومنهم خرج تشي غيفارا ونلسون مانديلا وسلطان باشا الأطرش وحافظ الأسد وبشار الأسد وحسن نصر الله..
في الحرب على سورية هناك كم هائل من النزاع بين الواقعية وبين الطموح المتوثب.. بين الشيب واللاشيب.. وبين النفوس المجنحة والأجساد التي لا أجنحة لأرواحها كما أرواح الدجاج.. وهي حرب تعكس الصراع بين المادة والروح.. وبين جسد المتنبي الذي يريد أن يتعب ويشيخ وبين نفسه العنيدة التي لا تعترف بالواقع وشعارها: إما أنا وإما الواقع.. فبعض الناس كانوا كالمتنبي في همته.. وبعضهم شاخت نفسه وهرمت وتجعدت وتقوست عظامها قبل جسده الذي يبدو منتصبا كشجرة مجوفة..
ففي بداية الحرب كان من ينظر إلى المشهد السياسي يجد أنه لا يقدر إلا أن يكون واقعيا لأنه لا مساحة لشيء إلا للواقع الرهيب المتمثل في تكالب العالم كله متمثلا في 130 دولة على بلد صار مثل اليتيم.. لم يعرف التاريخ تحالفا شريرا كهذا.. ولا يصدق عاقل وواقعي أن هذا التحالف سيهزمه بلد واحد.. تحالف فيه عرب وصهاينة ومسلمون وخيانات ومنشقون وفاسدون وشعوب كالقطعان من الماشية تحتفل بالجهل ووهابية دموية مهووسة بالدم والحقد ومال كبحر بلا شواطئ ونهر من سلاح بلا ضفاف وحقد وكذب وتزوير وفبركة وطوائف وملوك وغرب وناتو وحدود تطبق عليك.. فبدا أن من الجنون أن تتحدى الواقع وألا تنتمي إلى مذهب الواقعية.. وبدت قلة العقل ألا تنزوي تتأمل مقهورا محسورا كسر العظم السوري وترفع شعار النأي بالنفس وانتظار ما يأتي لأننا رهائن ما يأتي به القدر.. ولكن الروح العالية والنفوس المجنحة التي لا تشيب هزمت الواقعية وهزمت الجسم والعين والسمع وقهرت هذه الهمم كل أثقال الجاذبية والواقعية.. وكانت كلمة رفيق نصر الله الشهيرة بأنها "خلصت" هي القوة الروحية التي تعاند الواقع وتهز الجسد هزا عنيفا وتطرحه أرضا.. وتترجم نفس المتنبي التي لا تشيب إلى عدم اعتراف إلا بما نريد..
وكان المتنبي هو الذي يرتدي كل بزة عسكرية سورية وينزل قدميه في البوط العسكري السوري.. وكنت أرى نفس المتنبي التي لا تشيب وجسده في كل الشوارع والجبهات.. المتنبي الشاعر ترك جسده في قصور الأمراء ورحلت روحه من القرن العاشر الميلادي واستقرت في أجساد الشباب والرجال والعسكريين السوريين في القرن الواحد والعشرين ووقفت على الحواجز في البرد وفي الحر وسافرت من سجن حلب المركزي إلى حمص والرقة والساحل ودرعا.. ولم تتعب.. وهي تقول "وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه.."..
ولكن مع تطاول الحرب عاد ضخ الواقعية من جهابذة الحرب النفسية وفقهاء الواقعية.. وأطل الواقعيون الجدد برؤوسهم على الناس.. وبدؤوا يهزون أشجار الأرواح.. وبدا كل وطني يجرؤ على القول بالخلاص يغامر برأسه.. وبروحه.. وتهجم عليه وحدات الواقعيين ودواعشهم وتدفع إليه الجماهير بأسئلة الواقعية التي استلتها من صدورها المنقوعة بالانتظار الطويل والتي يطعمها الواقعيون من عزيمتهم الخائرة.. حتى صار الكتاب الذين يرصدون بورصة الرضى الجماهيري على قراءتهم للنجوم والطالع يتفننون في التشاؤم وينتقدون كل من تفاءل بالخلاص ويتبعون التقية في القول بأن ما يحدث ليست له نهاية ولا يبحثون عن الضوء في النفق ولا يريدون إيقاد الشموع في الظلام بل وصف الظلام واكتشاف اللون الأسود.. وصارت البطولة والحكمة هي الاعتراف بالواقع وهو أن اللعبة أكبر منا جميعا.. وصرنا أصغر اللاعبين.. وزاد من هذه الواقعية ذات الرايات البيضاء طول صبر الحلفاء وتروّيهم في كل خطوة على تمادي القتلة والاكتفاء بعدم الرد عليهم واللجوء إلى الصمت الغامض.. حتى صار إخراج الأوراق السرية لقوة المقاومين شيئا ينسب إلى ضرورات الحرب النفسية والى مسرح اللامعقول.. رغم أن المنطق يقول بأن من صمد خمس سنوات لا يحتاج إلى برهان على أنه طوى مرحلة كاملة وأن ما لديه من مخزون القوة الخفي الشيء الكثير وأن ما خبأه هو الذي يجب أن يفاجئ الجميع.. لأن الحرب هي المفاجأة.. وأنه حتى على المستوى العسكري يحتفظ بالنار لوقت لا تنفع فيه إلا النار.. ولولا مخزون القوة المخبأ لوقت البأس لما تركنا الخصوم نتحداهم وهم يدركون أن بقاءنا واقفين نذير شؤم عليهم وإعجاز ترتجف منه واقعية الدنيا كلها..
في الحرب على سورية يسأل الناس سؤالا مشروعا عن نهاية الحرب وصيرورتها.. وهو سؤال يطرحه كل شعب وكل أمة تخوض حربا.. حتى الأمريكيون الذين لم يذوقوا ويلات الحرب في غزو العراق كان وجود أبنائهم في حرب غامضة مديدة بلا أفق في العراق سببا في قلقهم وإصرارهم على معرفة نهاية الحكاية.. وكان تقرير بيكر-هاميلتون هو وصفة للنهاية.. الحل بيد الأسد ونجاد.. وبالفعل بدأت النهاية منذ تلك اللحظة..
وفي الحرب السورية لا تبدو الصورة معقدة كثيرا فهناك قوتان رئيسيتان تتحركان على الأرض هما السعودية والخليج وتركيا.. وإذا كان هناك من نصيحة بقياس بيكر-هاميلتون سوري فهي أن نهاية الحرب ليست نابعة من داخل سورية بل من لجم هاتين الدولتين اللتين دون انخراطهما لا تقدر أمريكا وإسرائيل والغرب على تنفيذ المشروع.. والحل هو إيجاد صيغة ما لإرغامهما على النأي بالنفس عن الشأن السوري.. ولاشك أن هذا ليس بمستحيل.. وربما بدأنا نقترب من تلك المرحلة التي ترغمهما على النأي والتنحي وهذا أحد عوامل هياجهم في الجبهات..
هناك من يريد أن يبث الروح المستسلمة ويعمل على أن ترى روح السوري ما يراه الجسد بعينه ويسمعه بأذنه كي تشيب روحه قبل الجسد.. وهؤلاء يريدون أن تشيب روح المتنبي وأن يشيب الشعر والكلام الذي قاله.. لتصير طموحات المتنبي في قطف النجوم توصف بأنها ضد الجاذبية.. وحالمة.. ولو كان المتنبي في زمننا لوجد ألف كاتب وألف ناصح وفيسبوكي وخبير استراتيجي ومثقف يمضغ النفط الثقيل ويلوك أسعار النفط الخام.. وكل واحد ينصحه بأن يخجل مما قال وأن يكون واقعيا على الأرض.. ولقال بعضهم إن المتنبي يمثل دور "أحمد سعيد" في نكسة حزيران دون أي فرق.. وهو "أحمد سعيد" سيف الدولة الحمداني لأن المتنبي كان يحكي عن الصمود وعن معفر الليوث سيف الدولة وانتصاراته فيما كان الروم يحاصرونه في الحدث الحمراء ويأسرون جنوده وأبناء عمومته.. ومنهم أبو فراس الحمداني نفسه..
ولاشك أن هؤلاء سيسخرون عندما كان المتنبي يقول لسيف الدولة:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه... لمن ادخرت الصارم المصقولا؟؟
أي إن سيف الدولة قد أذل ليثا بسوطه وعفر وجهه في التراب ولم يضطر لامتشاق سيفه الذي ادخره لمعركة أخرى.. ولو كان هناك واقعيون ومهرجون مثل فيصل القاسم وجنرالات الثقافة النفطية ممن يلوكون النفط اللزج وينفثون الغاز من مناخيرهم ومقاعدهم كانوا سيقولون مستهزئين بالمتنبي بأن سيف الدولة لا يستعمل سيفه ولا يمتشقه لأن سيف الدولة لم يكن يملك سوى سوط في يده.. وأنه لا سيف في يده.. ولا سيف إلا في اسمه.. وأنه لن يردّ "إلا في الزمان المناسب والمكان المناسبين" لأن من لا سيف معه لن يرد إلا بالسوط أو بالصوت.. وأنه سيسقط عن صهوة جواده..
اليوم نقول إن الجيش السوري الذي نزل المتنبي في روحه العنيدة التي لا تشيب وثيابه وحذائه ويقوده الرئيس بشار الأسد الذي نزلت فيه روح سيف الدولة الذي عفر وجوه الثورجيين ووجوه قادة العالم بالسوط هو الذي سيقرر متى يخرج الصارم المصقول من غمده.. والمعركة ستقول كلاما لم يصدقه الواقعيون.. ولم يصدقه الذين لم يروا إلا السوط ولم يروا لمعان السيف.. والسيوف التي في المخازن..
لهؤلاء جميعا.. وإلى كل الواقعيين الذين لا أجنحة لأرواحهم ولهم قلوب الدجاج وواقعيته.. لا تعتقدوا أن النفس يمكن أن تصبغ لون شعرها.. فمن شابت نفسه وابيضّ رأسها.. لا ينفع معها كل ألوان العالم وأصباغه.. ولن ترى النور لأنها تمضغ كل ظلام الدنيا والوجود..
وقريبا ستجدون ماذا يعني أن تنتظر بسلاحك المصقول.. وألا تشيب روحك.. وماذا يعني أن يكون أبو الطيب المتنبي أستاذنا وأستاذ أرواحنا.. ويرتدي البوط العسكري في حلب فلا يشيب.. وأن نكون نحن خريجي مدرسة سيف الدولة.. وحملة سوطه.. وحملة سيفه.. وبأن زمن السوط قد أزفت نهايته.. وأن زمن السيف المصقول قد بدأ.. وأن النفوس التي لا تشيب لا تشيب سيوفها..
.. وسيعلم العالم من هاهنا أي يقين نعنيه ونحمله وأي ثقة بالنفس لدينا حتى أننا نؤمن أننا نحن من نقول للواقع الذي نريد: كن... فيكون 



  عدد المشاهدات: 1751

إرسال لصديق

طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: