الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   مقالات  

الكتاب كاملا - سراب وشيوخ يرتدون الأبيض تحقيق حول الوجه المخفي لقطر، خزنة فرنسا تأليف روبير مينار وتييري ستينير
May 31, 2013 11:54

سراب وشيوخ يرتدون الأبيض
تحقيق حول الوجه المخفي لقطر، خزنة فرنسا
تأليف روبير مينار وتييري ستينير
Mirages et Cheikhs en blanc
Enquête sur la face cachée du Qatar
coffre-fort de la France
Robert Menard, Thierry Steiner
الإهداء
إلى رفاق السلاح في الجيش العربي السوري
إليك يا سيدي الشهيد
إليك يا رفيق الدرب المختطف من قبل أدوات قطر
والسعودية وتركيا وإسرائيل
إليك يا سيادة الرئيس بشار الأسد
ورغم الضغوط علينا من مدعي الوطنية من جهة
ومن أعداء سوريا من جهة أخرى
فلن نتوه عن البوصلة
الفصل الأول
آل ثاني يبعد آخر
في الثلاثين من شهر يوليو عام 2009 ، كان أمير قطر و زوجته الثانية يستمتعان بالبرودة النسبية مستظلين أشجار «الغليسين »، في دارتهما الواسعة الواقعة في مدينة شاتونوف  غراس، في منطقة الألب البحرية. كانا يتأملان المنظر البانورامي البديع الممتد حتى خليج مدينة كان.
على بعد خمسة آلاف كلم من هذا المكان، كانت الحرارة تصل الى 45 درجة في مدينة الدوحة. وكما الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، فإن غالبية الأعيان القطريين تركوا قطر لتمضية فصل الصيف في مناطق اكثر اعتدالا. القصور والإدارت دخلت حالة من الإستكانة الصيفية التي تسبق حالة الخمول في شهر رمضان. كل ذلك يشكل الظروف المثلى للقيام بانقلاب عسكري منذ عدة أشهر، كان الديوان الأميري يعاني من تمزقات حادة بين الفئات المتناحرة بحيث أن الأمير كان يجهد لفرض احترام سلطته، ذلك أن وراء النزاعات العائلية و الخلافات المالية التي لا مفر منها، كانت تبرز خلافات سياسية حقيقية. البعض كان يأخذ على الشيخ حمد سلوك ديبلوماسية مرتبكة، بينما آخرون كانوا يلومونه على التغيير السريع المفروض على البلاد. كانت قدرتهم على تحمل صورة الحداثة التي يريد الأمير إعطاءها عن قطر تتراجع يوما بعد يوم إذ كانوا يرون أنها لا تتناسب مع التقاليد التي يتعلقون بأهدابها و لكن خصوصا لأنها تتناقض مع مصالحهم.
كان السبب الرئيس لسخطهم يتمثل في الرغبات الإصلاحية التي تدفع باتجاهها الشيخة موزه، زوجة الأمير الثانية. كانوا يقبلون بغض الطرف عن دفاعها عن مصلحة الطفل وعن نجاحها في استبدال الأطفال في سباق الهجن بروبوتات، كذلك كانون يقبلون على مضض أن تؤخذ لها صور وهي ترتدي الحجاب بشكل خفيف للغاية، لكنهم، بالمقابل، كانوا لا يقبلون أن تتدخل أكثر فأكثر )في شؤون الدولة( وأن تطالب بمزيد من العدالة والحرية، إذ أن ذلك فوق قدرتهم على التحمل
كانت التجربة السريعة لمركز الدوحة لحرية الإعلام المحفز لهذه الحالة من الغيظ التي بلا شك ساهمت في الدفع الى محاولة الإنقلاب التي جرت في صيف العام 2009 . بعد عدة أيام على ذلك، اتصل بنا أحد صحافيي مجلة الأكسبرس ليعلمنا أنه بحسب معلومات المخابرات الفرنسية، فقد أصبحنا الأعداء الألداء لمجموعة المحافظين القريبة من إيران والتي كانت وراء محاولة التمرد.
محاولة الإنقلاب فشلت و تم توقيف حوالي ثلاثين من الضباط الكبار من الجيش القطري الذي لا يزيد عديده على 11 ألف رجل. هؤلاء الضباط قد يكون تم القبض عليهم بينما وضع العديد من الأفراد الذين ينتمون الى العائلة المالكة قيد الإقامة الجبرية. غير أن الشخص الذي يعد بمثابة العقل المدبر لهذه العملية و هو الشيخ حمد بن جاسم بن جابر آل ثاني، رئيس الوزراء و وزير الخارجية، فإنه لم يجد حاجة حتى للإستقالة. فقد سارع الأمير و هو ابن عمه، الى تناسي الموضوع بعد أن أخذ بعين الإعتبار كل الملفات الحساسة التي يعرفها الشيخ حمد والحصص العائدة له في كافة قطاعات الإقتصاد القطري وهو ما يجعل منه أحد الرجال الأكثر ثراء في الإمارة فضلا عن نفوذه الكبير لدى الأفراد الآخرين في الأسرة الحاكمة. يضاف الى ذلك مهاراته المؤكدة في إدارة ديبلوماسية قطرية بهلوانية. كل ذلك شكل سببا منع أمير قطر من التخلص من رئيس وزرائه المزعج.
بلغ تعداد سكان قطر في 31 أب 2009 ، بموجب الأرقام التي نشرها معهد قطر للإحصاءات، 1623 724شخصا. غير ن القطريين لا يمثلون سوى 15 بالمائة من مجموع السكان بما لا يتجاوز 80 ألف نسمة، إذا احتسبنا البالغين منهم فقط. و لذا، فإن الإمارة في الواقع، كناية عن قرية كبيرة تتشكل من قبضة من القبائل، منها قبيلة آل ثاني التي هي الأكبر عددا إذ أن 40 بالمائة من القطريين ينتمون اليها.
وتتحدر قبيلة آل ثاني من قبائل بني تميم الوهابية التي وصلت الى قطر بداية القرن الثامن عشر، وتمركزت في منطقة زباره، في الغرب، قبل أن تنتقل، في أواسط القرن التاسع عشر، الى الدوحة، عاصمة قطر الحالية.
قبل أن تتحول الى دولة مستقلة منذ أقل من أربعين عاما، خضعت دولة قطر تباعا لسيطرة الفرس والبرتغاليين والعثمانيين والبحرينيين وأخيرا البريطانيين. وفي الوقت عينه، كانت القبائل الرحل في المنطقة تتقاتل وتتناحر للسيطرة على الأرض وذلك حتى القرن التاسع عشر، عندما قررت المملكة المتحدة التدخل لفض خلاف بين عائلة آل خليفة البحرينية والقطريين المتمردين على سلطتها. وقع اختيار البريطانيين على متعهد أعمال قطري هو محمد بن ثاني، وكان يحظى بالإحترام ويقيم في الدوحة منذ مدة طويلة من أجل التفاوض على تسوية ديبلوماسية. منذ ذلك التاريخ، لم تتخل عائلة آل ثاني أبدا عن أعنة قيادة قطر.
غير أن قطر عرفت منذ الإستقلال عام 1971 عمليتين انقلابيتين. في الحالتين، كان أحد أفراد عائلة آل ثاني هو الذي يقوم بالإنقلاب على آخر من العائلة نفسها. الأمير السابق الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني هو والد الأمير الحالي الشيخ حمد، والشيخ خليفة نفسه وصل الى السلطة من خلال قيامه بانقلاب، بعد أشهر قليلة على استقلال قطر، على ابن عمه الشيخ احمد بن علي. في سنوات حكمه الأولى، عمد الشيخ خليفة الى تحديث اقتصاد البلاد وبنيته التحتية بشكل كبير، وبعد ذلك، أخذ يمضي الكثير من وقته في الخارج وتحديدا على الشاطئ اللازوردي وأخذ يخلط، أكثر فأكثر، بين خزانة الدولة وبين أمواله الخاصة الى درجة أن بعضهم يعتبر ان مبلغ 25 مليار دولار انتقل من خزائن الدولة الى حساباته الخاصة.
أما الأمير حمد، فإنه بكر أبناء الأمير الخمسة، وقد درس في الأكاديمية العسكرية ساندهورست، في بريطانيا ولدى عودته الى الى قطر في العام 1977 ، عين وزيرا للدفاع. في العام 1995 ، استفاد الأمير من إقامة قصيره في الدوحة، لينحي أحد أبنائه من منصب رئيس الوزراء و يعين واحدا آخر مكانه.
اظهر هذا الإجراء الكيفي لولي العهد، الشيخ حمد، أن والده يستطيع أن يقضي على طموحه في أية لحظة بأن يزيحه من ولاية العهد بسبب نزوة ما. في شهر حزيران من العام نفسه، استفاد الشيخ حمد من وجود والده في احد قصوره في سويسرا ليعلن نفسه أميرا للبلاد بدعم وزير الخارجية الحالي الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني الذي كان عين في هذا المنصب في العام 1992 . تقول الرواية أن الشيخ خليفة سمع بنبأ تنحيته عن العرش وهو يستمع لنشرة الأخبار في إحدى الإذاعات. الآن، يرجح أن الشيخ حمد قد يسمع نبأ تنحيته، في حال ألمت به مثل هذه المصيبة، من قناة الجزيرة.
حصل الإنقلاب الذي قام به الشيخ حمد بهدوء ودون إهراق قطرة دم واحدة. غير أن الأمير المطاح به سعى، خلال شهور، الى استعادة عرشه، ونجح من مكان إقامته في فندق كارلتون في مدينة كان في الحصول على دعم المملكة السعودية، كما نجح في تنظيم محاولة انقلاب عسكري مضاد في شهر فبراير من العام 1996 ، قام بتنظيمها بول باريل، وهو ضابط في سلك الدرك الوطني الفرنسي وقائد خلية مكافحة الإرهاب التابعة لقصر الأليزيه أيام حكم الرئيس فرنسوا ميتران. وكان بول باريل قد اصبح مسؤول الأمن الشخصي للشيخ خليفة. وفشلت محاولة الإنقلاب وتم اعتقال حوالي مئة شخص بينهم وزير المالية السابق الشيخ حمد بن جاسم بن حمد، وحكم على الأخير بالاعدام، لكن الأمير عفى عنه، حيث أطلق سراحه في سبتمبر من عام 2005 . غير أن المتآمرين بقوا رهن الاعتقال السري، حتى بدء محاكمتهم في عام 2000 . ذهب بعضهم الى تأكيد أنه تم تعذيبهم لإجبارهم على «الاعتراف » بجريمتهم، وبنتيجة المحاكمة، صدرت أحكام بالسجن المؤبد على 19 من المتآمرين في محكمة البداية، غير أن الأحكام تحولت الى الإعدام في محكمة الإستئناف. لكن الأحكام لم  تنفذ لا بل إن اثنين من المحكوم عليهم أعفي عنهما. أما السبعة عشر الآخرون، فما زالوا قابعين في الممر المفضي الى الموت. فضلا عن ذلك، تم تجريد عدة آلاف من القطريين، المنتمين الى فخذ الغفران من
قبيلة المره، من جنسيتهم القطرية، وأجبرت غالبيتهم على الإختيار ما بين السجن أو المنفى، بسبب ضلوعهم المفترض في محاولة الإنقلاب عام 1996 . أما والد الأمير، الذي نحي عن العرش، فقد تصالح مع ابنه وعاد ليعيش في قطر في العام 2004 .
كان طموح الأمير الأكبر، منذ وصوله الى السلطة، أن يزيد من «بروز » قطر على المسرح الدولي. فيما كان والده يعتبر أن مصلحة البلاد تكمن في البقاء في ظل جيران قطر الكبار سياسيا وثقافيا، فإن الشيخ حمد أراد أن يجعل من قطر، البالغة مساحتها 11 ألف كلم مربع فقط، دولة «معروفة وبارزة .»
لهذا الغرض، فقد استخدم جاذبية وسحر زوجته الثانية وصرف الأموال من غير حساب، تحقيقا لهذا الهدف، لذا، فقد أطلق قناة الجزيرة وأكثر من عقد القمم الدولية في الدوحة، وراهن كثيرا على الرياضة، حيث يقول أحيانا إنه «من الأهم أن نكون في اللجنة الأولمبية الدولية من أن نكون في الأمم المتحدة ». لقد تم في قطر بناء اكبر قبة رياضية في العالم بمناسبة الألعاب الأسيوية في الدوحة عام 2006 ، وصرفت قطر مبلغ مليار دولار لبناء مجمع رياضي يمكن أن يتسع لعشرين ألف مشاهد جلوسا، وهو مجمع يضم مسبحا اولمبيا وملعبا لكرة القدم ومركزا للتأهيل الرياضي. تقدمت قطر بترشيحها لاستضافة الألعاب الأولمبية عام 2016 . غير أن الحظ لم يحالفها، لذا ستحاول مرة أخرى بمناسبة ألعاب عام 2020 . كما تأمل الدوحة بتنظيم مبارة كأس العالم لكرة القدم في العام 2022
في ملاعب مكيفة. كذلك، فإنها تسعى لاستضافة أحدى جولات بطولة فرنسا لسباق الدراجات الهوائية. الجدير بالذكر، أن الدوحة تنظم بطولة قطر للدراجات الهوائية، أحد المشرفين على السباق هو البطل السابق في هذه الرياضة أدي ميركس، كما أن التنظيم عهد به الى منظمة «اموري سبورت أورغانيزايشن »، التي تتولى تنظيم بطولة فرنسا. عمدت قطر، في محاولة منها للفوز بالجولة الإفتتاحية من بطولة فرنسا، الى تقديم مشروع بإجراء الجولة على مدارج مغطاة مع أجهزة لترطيب الجو. بطبيعة الحال، يمكن افتراض أن السباق سيجرى ليلا لتلافي قيظ النهار في شهر يوليو.
في سياق النشاطات الرياضية، فإن قطر تستضيف مباراة الجائزة الكبرى لسباق الدراجات النارية وبطولة الدوحة لكرة المضرب التي خصصت بجوائز مالية كبيرة لاجتذاب اللاعبين الدوليين. من الفعاليات الرياضية بطولة كرة القدم التي هي موضع افتخار وطني قطري. الجدير بالذكر أن الفريق القطري الوطني لكرة القدم، الذي يدربه الفرنسي برونو ميتسو، كاد أن يتأهل الى مباريات كأس  العالم عام 2010 . من المعروف أن النوادي القطرية تدفع مبالغ طائلة للاعبين الدوليين، الذين بدأ نجمهم بالأفول في العالم كله. من الأمثلة على ذلك أن نادي الغرافة  الدوحة استقدم اللاعب البرازيلي جونينو الذي فاز سبع مرات مع فريقه )أولمبيك ليون( بكأس فرنسا. بحسب معلومات من مصادر مقربة من النادي، فإن اللاعب البرازيلي وقع عقدا حصل بموجبه على مبلغ مليونين ونصف مليون يورو، وذلك لعامين. من جانبه، فاز فريق قطر الوطني لألعاب القوى بالجائزة الذهبية في دورة ألعاب القوى للعام 2003 التي جرت في باريس في شهر آب من العام 2003 بفضل الرباع ستيفن شيرونو، الكيني الأصل، الذي اعطي الجنسية القطرية وسمي سيف سعيد شاهين مع منحه مرتبا طيلة الحياة.
بالمقابل، سيكون من المبالغ فيه القول إن أمير قطر قام بإصلاحات عميقة في بلاده في في مجال الديمقراطية. ربما لم يكن يرغب حقيقة بإجراء مثل هذه الإصلاحات. ففي شهر أبريل من عام 2007 ، قام رئيس الوزراء نفسه بتعيين حدود  «الإصلاحات الديمقراطية » بقوله إن هذا يعني »قبول الأقلية برأي الأكثرية على ألا يكون رأي الفرد معللا بأسباب شخصية. ففي العالم المعولم الذي نعيش فيه، من المهم أن يواجه المواطنون جميعا تحدي الحداثة من أجل تطوير المجتمع. من الواضح أن الحداثة لا يجب أن تكون منفصلة عن قيم ثقافتنا. من الأساسي أيضا أن يمارس المواطن حرية التعبير باحترام بحيث يكون الهدف، من البحث عن الحقيقة، خدمة الصالح العام... يا له من تعريف مهم للديمقراطية!
من الناحية العملية، حصلت، رغم كل ذلك، بعض التغييرات منذ صعود الأمير الحالي الى العرش.
فمنذ العام 1999 ، تم استحداث مجلس بلدي يتم تعيينه عن طريق الإنتخاب وتجدد ولايته مرة كل أربعة أعوام. لكن في الواقع، فإن عمل هذه الجمعية المؤلفة من 29 عضوا ينحصر في تحديد قيمة مخالفات السير. في العام 2003 ، تم تبني دستور جديد عن طريق الإستفتاء الذي حظي بموافقة 96.6 بالمئة من الناخبين الذين بلغ عددهم 71 ألف ناخب. أعطى الدستور الجديد حق الإقتراع للنساء وقضى بتأسيس مجلس استشاري هو مجلس الشورى الذي ينتخب ثلثا أعضائه بالإنتخاب المباشر من الشعب بينما الثلث الأخير يعينه الأمير. يقتصر دور المجلس، كما يدل عليه اسمه، على تقديم الإستشارة رغم أنه مولج نظريا بالتصويت على ميزانية الدولة. كذلك، يستطيع أعضاء مجلس الشورى تقديم مقترحات لسن قوانين. غير أن إقرارها يبقى منوطا بالأمير. الأهم أن الدستور الجديد لا يفسح المجال لتشكيل أحزاب سياسية كما أنه ينص على أن السلطة يتم تداولها داخل أسرة آل ثاني، ويتم انتقالها بهذه الطريقة أو تلك.
الفصل الثاني
السكاكين المشحوذة

«لا يجوز التحدث هكذا الى صاحبة السمو ». كان عليّ أن أكون حذرا، أو على الأقل، كان علي أن أتنبه لهذه الملاحظة. في شهر نوفمبر عام 2007 ، كان لي لقاء مع الشيخة موزة. بعد اللقاء الذي دام حوالي الساعة، لم يكن مدير مكتب الشيخة موزة، الذي غاب تماما عن النقاش، مسروراً، فهذا الشخص، ذو الشخصية الباهتة، أخذ عليّ أنني ناديت الشيخة موزة ب «سيدتي »، وهي طريقة غير مألوفة للتخاطب معها، مما يعني أنني ارتكبت خطيئة «الإساءة » الى سموها. باختصار، فقد ظهر عليه أنه سيء المزاج وقال لي: «لا تنتظر جوابا على طلبك قبل عدة أشهر »، بينما قال لي مستشار آخر للشيخة موزة، وهو مغربي: «ثمة حظ من اثنين أن ترد سموها على طلبك .»
إنهما عبارتان للمجاملة لفظتا وها نحن على مدخل مؤسسة قطر، التي قطعت من أجلها عدة ألاف من الكيلومترات التي تفصل بين باريس والدوحة. هل كل ذلك من أجل لا شيء؟
لقد بدأت الأمور بشكل أسوأ من ذلك، فإحدى سكرتيرات هذه المرأة البالغة الجمال، التي اكتشفها كثير من الفرنسيين بمناسبة احتفالات 14 يوليو في جادة الشانزليزيه، مرتدية ثوبا أخضر اللون الى جانب عقيلة الرئيس ساركوزي كارلا، عام 2008 ، بعد أن رأوها باللون الأحمر الى جانب سيسيليا، الزوجة السابقة، قالت لي، عند وصولي، إنه ليس لدي سوى عشر دقائق للقاء الشيخة موزة، إذ أن «سموها مشغولة جدا »، إن في الأمر مبالغة. ليس لدي سوى عشر دقائق للإجتماع بزوجة الأمير الثانية  لكنها امرأته والوحيدة التي تظهر الى الملأ  لإقناعها بإيجاد بنية يكون غرضها مساعدة الصحافيين المضطهدين في المنطقة. إذاً، يجب التركيز على الأساسي ومحاولة إثارة عاطفتها من غير إعطاء الإنطباع بالإستجداء.
في نهاية المطاف، دام اللقاء أكثر من الوقت المخصص له. لقد تحدثت اليها عن العراق وعن الصحافيين الذين يقتلون وعن العائلات المنكوبة، التي لا تملك فلسا واحدا، وعن التضامن العربي وهو العملة الرائجة في اللقاءات والمؤتمرات والإجتماعات العديدة، والذي تخصصت به دول الخليج، لكن هذا التضامن لا نجد له أثرا عندما تكون هناك حاجة لمساعدة الضحايا.
لقد استمعت لي بانتباه وطرحت علي عدة أسئلة. وتحدثنا في السياسة ليس من باب عمل الإحسان عن طريق تجميع قطع النقود الصغيرة أو حفلات العشاء الخيرية. الشيخة موزة تحلم بتحقيق الإلتقاء بين الغرب الذي يجذبها أي أوروبا والولايات المتحدة، التي هي الوجهة المفضلة لملوك وأمراء الشرق الأوسط، إذا استدلينا على ذلك من خلال أعداد القصور التي يشترونها وبين العالم الإسلامي، الذي تريد أن تحظى قيمه وتفرده باحترام أكبر. كانت تضحك أيضا مما يزيد من سحرها وقد ارتدت حجابا خفيفا، لا بل خفيفا جدا، مما يعني أنه واجب يتعين قبوله، ليس إلا.
سريعا، بدأت تظهر المناورات والضربات الوضيعة والنزاعات في محيط الشيخة، حيث التنافس بين الذين ينبطحون أمامها أو الذين يتنافسون على استخدام الكلام المعسول. لكن تجدر الإشارة الى ان البقاء في ظل السلطة و الإلتقاء بالأسرة الحاكمة لا يخلو من المنفعة، فهناك المرتبات العالية، وهناك خصوصا إمكانية إعارة الإسم للشركات الأجنبية التي تحتاج لمواطنين قطريين من أجل إنجاز الصفقات مع قطر، والجميع مستفيد من هذه العملية. من هنا، أعتقد أنه نشأ سوء الفهم بيننا، إذ كيف يمكن تصور أن غربيين جاؤوا الى قطر من أجل هدف أخر غير كسب المال و إبرام الصفقات؟ ان هذه هي حال غالبية الأجانب هناك.
في تلك المرحلة، كنت أخوض مع منظمة مراسلين بلا حدود معركة الألعاب الأولمبية في بكين.
وقتها، لم تكن وسائل الإعلام تتداول مطلب مقاطعة افتتاح الألعاب، ولم تكن حوادث الشغب في التيبت قد حصلت، ولم نكن بعد قد أربكنا الاحتفال بإشعال الشعلة الأولمبية. مع ذلك، فقد طردنا من العاصمة الصينية حيث نظمنا في شهر أغسطس، اي قبل عام من بدء الألعاب، مؤتمرا صحافيا مرتجلا أمام مبنى الهيئة الصينية لتنظيم الألعاب الأولمبية، حيث عمدت قوى الأمن الى توقيف بعض الصحافيين الموجودين لوقت قصير. أما نحن، فقد نجحنا في الإفلات من قوى الأمن بعد أن رفعنا لافتات عليها الحلقات الأولمبية على شاكلة أصفاد، غير ان الشرطة دخلت علينا ليلا في غرفنا في الفندق. بما أننا رفضنا التوقيع على إفادات لم نكن نفهم منها حرفا واحدا، فقد تم اقتيادنا مخفورين وتحت حراسة مسلحة الى المطار حيث وضعنا في أول طائرة متجهة الى باريس. غير أن كل ذلك لم يثر ضجيجا. أما بخصوص الدوحة، فلسنا متأكدين أن ما حصل قد وصل الى أذن الشيخة موزة.
عشرون سنة امضيتها على رأس منظمة مراسلون بلا حدود. وخلال هذه السنوات، كم من مرة سمعت أن الدفاع عن حقوق الإنسان، التي حولناها الى «ديانة » جديدة، ليست سوى اختراع غربي والواجهة لمطامع دولنا في الهيمنة. وكم جوبهنا ب «الخصوصيات » التاريخية والثقافية والدينية لهذا أو ذاك. كلها حجج تشرح، بنظر الأكثر تسامحا، التأخر في ميدان حقوق الإنسان.
إذا كنت أعي جوانب الحقيقة التي يتضمنها هذا النوع من التفكير حيث تخلط المنظمات غير الحكومية بين الدفاع عن القيم العالمية وبين الدعوة لشكل من أشكال الديمقراطية، إلا أنني أعرف الإستخدام الذي يلجأ اليه المشعوذون الذين يحكمون عددا من البلدان لتبرير عدم احترامهم للإلتزامات، التي قطعوها أمام الأسرة الدولية ولتبرير ممارساتهم الشنيعة والجرائم المرتكبة. في الصين أو في كوبا، ستكون هناك دائما أسباب للدوس على الحريات ولرمي رجال ونساء في السجون، جريمتهم هي في رغبتهم بممارسة الإعلام.
لا شك أن ثمة إمكانية لمناقشة الطابع العالمي لإعلان حقوق الإنسان و اعتبار أنه يدافع عن رؤية غربية للعالم. الخصوصيات الثقافية موجودة وليس لي رغبة في نفي ذلك. غير أن هذه الخصوصيات لا تبرر أن نمنع الآخر من التعبير عن رأيه. سأكون دائما وفي أي مكان من العالم في معسكر الضحايا التي يراد لها ان تكم أفواهها تحت حجج عديدة، إن كان ذلك باسم الإيديولوجيا أو الدين أو في غالب الأحيان من أجل الإحتفاظ بالسلطة ليس إلا.
من الصحيح أن التدخل في العراق و »الكيل بمكيالين » وهو ما يطبع موقف عدد كبير من الدول الغربية في مقاربتها للنزاع الإسرائيلي  الفلسطيني، لا تساعد في توضيح هذه المسألة، إذ أن هذين المعطيين يستخدمان على شكل واسع من اجل نزع الصدقية عن فكرة الديمقراطية نفسها وعن الدفاع عن الحريات وهو ما يردده عموما ما يسمى «الشارع العربي .»
أنا كنت موجودا في مكتب الشيخة موزة لمجمل هذه الأسباب. إن فكرة إنشاء منظمة في بلد عربي، تدافع عن القيم نفسها وبالقوة نفسها التي تدافع عنها جمعياتنا الموجودة في أوروبا أو أميركا الشمالية، يمكن أن تكون ثورة حقيقية ليس لأن هناك نقصا لجهة وجود منظمات للدفاع عن حرية الصحافة وعن حقوق الإنسان بشكل عام في العالم العربي إذ أن هناك الكثير منها. غير أن المشكلة تكمن في صدقيتها. فكم هي المنظمات ذات الصدقية في هذا العالم؟ فضلا عن ذلك، فإن هذه المنظمات لديها ميل شديد لانتقاد الخارج. غير انها في الوقت عينه تغض النظر عما يجري في البلد الذي يؤويها. وهذا ما أسميه «ظاهرة الجزيرة ». ذلك أن هذه القناة الفضائية الموجودة في الدوحةتتميز بجرأة لا مثيل لها وهي تشكل بذاتها ثورة إعلامية في هذا الجزء من العالم، حيث الإذاعات و التلفزيونات خاضعة لرقابة دقيقة من قبل السلطات القائمة. لكن المشكلة أن لجرأة الجزيرة حدودا.
ذلك أنها لا تأتي أبدا بكلمة واحدة على ما هو حاصل في قطر، إلا عندما يتناول الأمر إغداق المديح على المبادرات الديبلوماسية القطرية أو الإشادة بإنجازات الإمارة أو بمآثر السيدة الأولى، الشيخة موزة، وبذلك تغيب نقاط الضعف التي تعاني منها قطر عن أهم قناة تلفزيونية في العالم العربي.
كنت أعرف كل ما جئت على ذكره عند دخولي الى مكتب الشيخة موزة. ولذا، لماذا المخاطرة والعمل في بلد، حرية الصحافة فيه وهم؟ هل هو الإنبهار بهذه السيدة التي عقدت العزم على دفع بلدها الى الأمام، مهما يكن الثمن؟ أم حبي للرهانات الصعبة؟ ام هو اهتمامي بالبلدان العربية حيث ولدت والتي أرى أنها بصدد الوقوع في الإنغلاق داخل هويتها وفي الإنطواء الديني مما يحمل في طياته تهديدا لها ولنا؟ الجواب، ان هناك شيئا من كل ذلك. وأنا فتحت أوراقي وكذلك الشيخة موزة. قلنا إننا سنعمل معا ولكن لكل واحد منا دوره المحدد. فمن جانبنا، سنقول ما نود أن نقول من غير لف ودوران ومن غير احتراس بما في ذلك عن قطر. وطلبت من أميرتنا أن تمول المركز العتيد و أن تلتزم بأن يتغير ظروف عمل الصحافيين القطريين. حدثت الشيخة موزة عن قانون الصحافة وهو الأكثر رجعية في
الخليج وذكرتها بأن بلدها لم يوقع ولم يصدق على شرعة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان. كان جوابها، الذي كررته أكثر من مرة، أنها توافق على ما أقول وأنا صدقتها في ما قالته.
كان للمركز الذي أردنا إنشاءه عدة أهداف: استقبال الصحافيين المهددين في بلادهم لعدة أشهر، توفير الدعم المادي للصحافيين وللوسائل الإعلامية المضطهدة، والعمل على تقريب وجهات النظر بين الصحافيين الغربيين وبين العالم العربي أو على الأقل العمل على أن يستمع كل جانب لوجهة نظر الجانب الآخر. أما الهدف الأخير فهو إقامة نصب يخلد ذكرى ألفي صحافي قتلوا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
انتهى اللقاء، غير أن الشيخة موزة حرصت قبل ذلك على القول: «إنني لا أريد أن يكرس المركز الجديد اهتمامه للعالم العربي وحده. إنكم عندما أوجدتم منظمة ’’مراسلون بلا حدود’’ لم تولوا اهتمامكم فقط لآوروبا، رغم أن منظمتكم موجودة في فرنسا. فلماذا إذا لا نستطيع من الدوحة النظر الى ما هو أبعد من الدول الإسلامية؟ ». أعتقد أنها كانت محقة في قولها ورأيت أن فكرتي الأولى تمثل تعبيراً عن ردة فعل رجل غربي. هذه السيدة قد لا تكون ديمقراطية، لكنها قد تكون مستبدة متنورة.
تصافحنا ولحق بنا المستشارون الذين عنفوني على طريقة تحدثي الى «صاحبة السمو .
غير أنني لم أعلق على ذلك اهمية إذ اعتبرت أنها ملاحظة صادرة عن بطانة حرصة على الدفاع عن مصالحها ومواقعها. إلا أنني أخطأت في الحكم. عندها، كانت الأمور تسير وفق ما هو مرسوم لها.
بعد يومين اتصل بي أحد المستشارين ليقول: «الأمير اعطى موافقته. فمتى سترجع الى هنا؟ ».الأمور سارت بسرعة ربما بسرعة تفوق المطلوب. في البلاط، كان الجميع يبتسم لي، غير أن السكاكين كانت مسلولة.
الفصل الثالث
الزوجة الثانية، السيدة الأولى
تعد الشيخة موزة، الجميلة والذكية، ملهمة السياسة الإصلاحية التي يطبقها زوجها. في العام 2007 ، عمدت مجلة «فوربس » الى تصنيفها من بين النساء المئة الأكثر نفوذا في العالم، بينما جعلتها «ذي تايمز » من بين النساء العشرين الأكثر قوة في الشرق الأوسط. فضلا عن ذلك، فإنها، باستثناء زوجة أمير دبي، السيدة الوحيدة في منطقة الخليج، التي تطل على الملأ.
تلبس الشيخة موزة بنت ناصر المسند، الجميلة والمتألقة، الوشاح كأنه أداة تزين أكثر مما هو رمز ديني وهي غالبا ما تترك خصلات شعرها تتدلى خارجه. هذه السيدة، الأم لسبعة أولاد، تراكم المسؤوليات والمراكز الرسمية إذ أنها رئيسة المجلس الأعلى لشؤون العائلة ونائبة رئيسة المجلس الأعلى للتربية وسفيرة اليونسكو لشؤون التربية والتعليم الأساسي. فضلا عن ذلك، فإنها تدير مؤسسة قطر النافذة التي تستخدم 1800 موظفا ربعهم من القطريين.
رأت مؤسسة قطر النور في عام 1996 ، بعد فترة قصيرة على الإنقلاب الذي أوصل الأمير الحالي الى السلطة. كان الغرض من إنشائها «الإرتقاء بالمجتمع القطري من خلال تطوير أسسه التي هي التربية والعلوم والتكنولوجيات وعن طريق تحقيق قفزة نوعية في ميدان الإرتقاء الإجتماعي بالمرأة والعائلة والثقافة .»
لقد وضعت الشيخة موزة التربية في قلب أولوياتها. من بين الإنجازات المذهلة للمؤسسة إقامة مدينة التربية وهو مجمع يقوم على مئتي هكتار من الأراضي في الدوحة حيث يقوم العديد من مؤسسات التعليم العالي ذات المستوى العالمي. ان قطر لم تبخل في الوسائل التي عبأتها من أجل إقناع بعضاً من أشهر الجامعات الأميركية للمجيء الى قطر. هكذا، فإن جامعة تكساس «أي أند أم » توفر برامج تمنح بفضلها شهادة الإجازة في الهندسة وإنشاءات البحوث. كذلك، فإن مدرسة «ويل كورنيل » في قطر تقدم تعليما متكاملا للأطباء فضلا عن إمكانية إجراء بحوث طبية. من جانبه، فإن معهد الفنون الجميلة التابع لجامعة فيرجينيا كومونولث يعطي شهادة الإجازة في الفنون الجميلة فيما جامعة «كارنيجي ميلون » تقترح برامج للمرحلتين الجامعيتين الأولى والثانية في المعلوماتية والتجارة. أما جامعة «جورجتاون يونيفرسيتي سكول أوف فورين سيرفيس » فإنها تتخصص في العلوم السياسية الدولية. كذلك، عمدت جامعة «نورث ويسترن » الى إنشاء فرع في قطر لمدرسة الصحافة الشهيرة العائدة لها. لم ينته البناء في هذا المجمع إذ أن مجموعة من الأبنية تنبت من باطن الأرض أو بالأحرى من الرمال وهي تتمتع بهندسة مستقبلية رائدة وبالتجهيزات الأكثر حداثة. كان أحد مسؤولي «نورش ويسترن » بالغ الفخر عندما كان يشرح لنا كيف أن بهو احد الأبنية سيزود بأكبر شاشة في العالم.
تتواجد مؤسسة قطر في الإنتاج التلفزيوني منذ العام 2004 وذلك بفضل «حوارت الدوحة » التي يديرها الصحافي البريطاني تيم سيباستيان و تبثها ال «بي بي سي وورلد نيوز ». في عام 2005 ، أنشأت المؤسسة قناة «الجزيرة للأطفال » وهي قناة تخصص برامجها بالكامل للشباب وتزيد ميزانيتها السنوية على أربعين مليون يورو.
عهدت المؤسسة الى مجموعة لاغاردير الفرنسية بإنشائها، كذلك فإن شركة تابعة للمجموعة الفرنسية نفسها كلفت عام 2009 إنتاج سلسلة من البرامج تحت مسمى «نجوم العلوم » وهي برامج مخصصة للعلوم والإبداع العلمي وتبث على 17 قناة تلفزيونية عربية عامة وخاصة. مبدأ هذه البرامج يقوم على اختيار 16 طالبا من 11 بلدا مختلفا من بين 1500 مرشح بحيث يتواجهون في إطار محترف  ستوديو قائم في الدوحة. فضلا عن ذلك، فإن مؤسسة قطر دخلت عام 2009 معترك الإنتاج السينمائي من خلال المشاركة في تمويل فيلم طويل باللغة الإنكليزية يحمل عنوان. »رومي، ذي فاير أوف لاف » الذي يروي قصة حياة الشاعر و الفيلسوف الأفغاني الأصل جلال الدين الرومي، الذي عاش في القرن الثالث عشر. بعض أشهر نجوم هوليوود مثل آل باتشينو و دانيال داي  لويس يشارك فيه.
لا تعرف رسميا ميزانة مؤسسة قطر. ولكن في الإمكان تقدير قيمتها إذا ما علمنا أن الاستثمارات المخصصة لإقامة مركز البحوث الطبية «سيدرا ميديكال أند ريسيرش سنتر » المفترض أن يفتتح أبوابه في العام 2011 ، تصل الى حوالي 8 مليارات دولار.
بالنظر الى ما تقدم، يمكن اعتبار أن دور الشيخة موزة يتخطى بأشواط دور السيدة الأولى التقليدية.
فالفضل يعود اليها بالدرجة الأولى في موضوع تحرر المرأة الذي تعرفه قطر. فالنساء في قطر يحتللن مراكز مرموقة في الوظائف العامة كما أن لهن الحق في الإنتخاب والترشح للمجلس البلدي، الذي ما زال دوره رمزيا حتى الآن. وفي المعرض المهني الذي نظم في الدوحة في العام 2009 ، كان عدد النساء الباحثات عن وظيفة أكبر من عدد الرجال.
بعكس السعوديات، فإن النساء في قطر مسموح لهن قيادة السيارات والكثيرات منهن يقمن بذلك من غير أن تنزع بعضهن الحجاب الذي يغطي جزئيا او كليا الوجه. هذا الوضع لا يساعد كثيرا دوائر الإحصائيات الخاصة بسلامة القيادة. ليس مفروضا على القطريات، من الناحية النظرية، نوع معين من الملابس، غير أنهن جميعا تقريبا يرتدين العباءة أو يغطين على الأقل الشعر. في عام 2009 ،كرست صحيفة «بيننسولا » إحدى مقالاتها الدينية لنقض الحجج العشر، التي ترفعها المرأة التي ترفض ارتداء الحجاب.
يلاقي الناظر في الدوحة أنواعا عديدة من الحجاب. فالحجاب الأكثر شيوعا هو منديل اسود اللون وظيفته تغطية الشعر. يمكن لهذا المنديل ان يخبىء كامل الشعر أو أن يترك بعض الخصلات خارجه.
أحيانا ما يعطي الإنطباع بأن المرأة قد جدلت شعرها تحت المنديل بشكل تتكون معه كعيكة. بعض النساء وغالبا ما تكن أكبر سنا، يرتدي «عباءة الرأس » وهي ثوب تقليدي مخاط بشكل يجعله يغطي الرأس والكتفين وبقية الجسم. من الأمور الدارجة رؤية نساء يرتدين النقاب، وهو حجاب يغطي غالبية الوجه ولا يتيح إلا رؤية العينين التي تكون أحيانا مكحلة بشكل مبالغ فيه. بعض النساء لا يكتفين بالنقاب بل يضفن اليه وشاحا أكثر خفة يغطي كامل الرأس. أحيانا أخرى، نرى العديد من أنواع الأقنعة الجلدية المجهزة بفتحة على شكل شبكة تخفي القسم الأسفل من الوجه.
واضح إذاً أن اختيار هذا النوع أو ذاك من الحجاب مربوط بطبيعة الحال بالمعتقدات الدينية للمرأة المعنية أو لزوجها. إذا كان الكثيرون من فقهاء الإسلام يرون أن وجه المرأة ويديها ورجليها ليست من الأجزاء التي يفرض القرآن تغطيتها، فإن آخرين يرون أن ارتداء الحجاب لإخفاء الوجه واجب ديني. إذا، ثمة فروقات عديدة، لذا فالسؤال الذي أطرحه هو: هل استخدام كلمة البرقع العامة وبالتالي غير الدقيقة في السجال الجاري في فرنسا مرده الجهل أم سوء النية؟
بالنسبة للغربي المفتقر للخبرة أو بالنسبة لسيء النية، فإن كل العباءات تتشابه. والحال أنها ليست كذلك، وهي ترتدى بأشكال مختلفة. فالنساء الأكثر اتضاعا، تكتفين بالعباءة العادية المصنوعة غالبا من مادة البوليستر. أما النساء الأكثر دلعا، فإنهن يرتدين ما يسمى العباءة «الفرنسية » وهي محصورة قليلا وتبرز شكل القامة. أما النساء الأكثر ثراء، فإنهن يخترن العباءات المطرزة بالزهور أو الفراشات أو التنين. تعمد بعض المحلات المتخصصة ببيع الثياب الفاخرة الى عرض عباءات تحمل تواقيع توم فورد أو جيل ساندر أو نينا ريتشي. منذ بعض الوقت، أخذت اكبر بيوتات الأزياء تهتم بهذا السوق الخاص. في يونيو عام 2009 ، جرى في صالونات فندق جورج الخامس في باريس عرض متخصص بعباءات شارك فيه حتى البريطاني، جزن غاليانو، الذي عرض مجموعة العباءات وفق نظرته وكانت مطرزة بخيوط مذهبة فيما عرض الفرنسي، جان كلود جيتروا، في مقابلة صحافية، نظرته للعباءة التي «تعكس الحركة في جسم يتحرك والذي سيتعرى في كل الأحوال في وقت من الأوقات ». والى جانب العباءة، فإن القطريات الثريات يتفنن في اختيار الحذاء وحقيبة اليد، بغرض التميز عن غيرهن.
ثمة حيز آخر يخفيه الثوب الأسود و هو الثياب الداخلية، فالماركات الشهيرة المعروفة في هذا الحقل موجودة كلها في المراكز التجارية حيث تحقق مبيعات خيالية. ذلك أننه تحت العباءة يرقد الدانتيل و المفاجآت الأخرى. تروي بريطانية استقرت في قطر منذ سنوات وحصلت على الجنسية القطرية قصة مسلية مفادها أنه خلال سنة إقامتها الأولى في الدوحة شاهدت أمراة قطرية تدخل مرحاض أحد المطاعم وهي ترتدي العباءة والنقاب. كم كانت دهشتها كبيرة عندما اكتشفت البريطانية أن هذه المرأة كانت ترتدي تحت عباءتها بنطلون جينز ضيقا و حذاءا عالي الكعب كما أنها صبغت شعرها باللون الأشقر.
إذا كانت المرأة القطرية تحررت بعض الشيء، غير أنها لم تصل بعد الى مرحلة مساواة الرجل. فالنساء اللواتي يتزوجن من أجانب يخسرن كل المنافع التي يستفيد منها الأزواج القطريون. كذلك فإنهن لا يستطعن إعطاء الجنسية القطرية لأبنائهن. في عام 2009 ، حصل حادث سير تسببت به دراجة نارية وأسفر عن قتل الأب والأم وولديهما، قضت محكمة الإستئناف بأن «ثمن الدم » الواجب ان يدفع عن المرأة و الإبنة يعادل نصف «ثمن الدم » الواجب ان يدفع عن الرجل والإبن. مهما يكن من أمر، فإن قطر تبقى بلدا متزمتا وصارما حيث يتعين على المرأة أن تلزم مكانها. في المقابلات التي تعطيها، تحرص الشيخة موزة على إبراز دور زوجها وتتحدث بصيغة الجمع بدل التحدث بصيغة المفرد المتكلم.
تتحدث عن زوجها الأمير من زاوية أنه ملهمها وهي قالت عنه في إحدى المقابلات: «لقد أمضيت الى جانبه وقتا اطول من الوقت الذي أمضيته مع أهلي .»
ولدت موزة في الخورفي عام 1959 ، وهي مدينة متوسطة بنيت حول مرفأ الصيد، وهي تشتهر حاليا بفضل ناديها لكرة القدم، الذي يشرف على تدريبه برنار مارشان، اللاعب الفرنسي السباق في نادي مدينة رين. في سن الخامسة، رأت موزة والدها يرمى في السجن بعد أن اقترح على أمير البلاد وقتها
الشيخ أحمد بن علي آل ثاني مجموعة من الإصلاحات السياسية والإجتماعية. كذلك فرض على__
العائلة الإبتعاد عن قطر، فلجأت الى الكويت. ولم ينته الخلاف مع آل ثاني إلا في العام 1977 وعلى الطريقة البدوية، إذ تمت التسوية عن طريق التزويج حيث تقرر أن يتزوج حمد، الإبن البكر للشيخ خليفة بن حمد من موزة بنت ناصر بن عبدالله المسند، التي كانت تبلغ من العمر 18 عاما. يقال إن العروس التي كانت لا تزال حاقدة على عائلة عريسها، لم تفتح فاهها أبدا ليلة العرس. وبعد الزواج، أكملت دراستها في جامعة قطر حيث حصلت على إجازة في علم الإجتماع عام 1986 . يقال إنها ساهمت الى حد بعيد في إقناع زوجها بالإستيلاء على السلطة عام 1995 . برز نفوذها في الحياة
العامة في العام التالي عندما قرر زوجها أمير قطر تعديل تسلسل الخلافة إذ ابعد ابنه البكر المولود من زواجه مع قرينته الأولى وابنة عمه وعين مكانه جاسم، بكر ابنائه من زوجته موزة. يروى أن الزوجة الثانية الطموح روجت لوجود علاقات خطيرة بين جاسم والإرهابي السعودي أسامة بن لادن، ولأنه فقد حظوته لدى والده، فقد وضع لفترة قيد الإقامة الجبرية.
في العام 2003 ، حصل تغير جديد في ولاية العهد حيث يرجح أن جاسم أثار غيظ والده بسبب مطالبته بمزيد من السلطات والإستقلالية في التصرف. لذا، فقد عمد الشيخ حمد الى تعيين ابن آخر من أبناء الشيخة موزة، هو تميم، وليا للعهد. يبلغ تميم حاليا التاسعة والعشرين من عمره.
تميم، كوالده، التحق بكلية ساندهيرست العسكرية البريطانية، ويعمل بنشاط لنسف مشروع فتح مدرسة تابعة لكلية سان سير العسكرية في الدوحة، يبدو أنه نجح حتى الآن في مسعاه إذ أن مذكرة التفاهم الموقعة بين قطر و فرنسا في العام 2007 ما زالت حتى الآن حبرا على ورق، بينما كان تدشين المدرسة مرتقبا في العام 2011 . لذا باستطاعة ولي العهد، الذي يحظى بدعم رئيس الأركان، أن يأمل أخيرا، باختيار ساندهيرست، من أجل تنشئة نخبة الجيش القطري. يبدو أن إحدى خصائص
قطر هي أن الإلتزامات الرسمية حتى تلك التي تحمل توقيع الأمير لا تساوي شيئا طالما أن النزاعات داخل القصر لم تسو.
يتميز الشيخ تميم بأنه أكثر خفرا من أخيه الأكبر. مع ذلك، فإنه أثار ضجيجا حوله في عام 2005لا بل أنه كاد أن يفقد عرشه ورأسه بعد أن توجهت الأنظار اليه في علبة الليل المسماة «غي » وهي علبة ليلية يرتادها المثليون في لندن. روت الصحافة البريطانية وقتها أن الشيخ تميم «شارك في شجار مع شريكه البريطاني واثنين آخرين من القطريين. رغم أنه لم توجه اليهم تهما رسمية، إلا أنهم منعوا من ارتياد النادي المذكور لمدة عام كامل ». يروى ان العلاقة مع ولاده الأمير ليست بالمستوى المثالي، التي يريد القصر الأميري الإيحاء بها. ويقال إن تميم مستعجل لخلافة والده ويرى الأخير أن ابنه متسرع كثيرا. كذلك ترى والدته الشيخة موزة الشيء نفسه.__
لا شيء افضل تعبيرا عن التأثير الذي تمارسه الشيخة موزة على زوجها من التأمل بهما عندما يكونان معا. ما لاحظته أنا، بمناسبة العشاء الذي نظم عشية انعقاد مجلس إدارة مركزنا لأول مرة حيث التقينا، وكنا حوالي 15 شخصا في مطعم الدنا، في فندق الشرق. الشيخة موزة قررت بنفسها مكان العشاء، وهي التي قررت كذلك حضور الأمير بهذه المناسبة. هما دقيقان في مواعيدهما. لقد اختصرت الحماية الأمنية الى الحد الأدنى. غير أن الصحيح ايضا ان قاعة المطعم لم تكن تستضيف أي زبون، وتم استبدال الزبائن بالحراس الشخصيين، وها أنا أجدني جالسا في المطعم قبالة الأميرة، بين ابنتها هند، التي تدير مكتب والدها والهندي ساشي تهارور، الذي فشل وقتها في الحصول على منصب أمين عام الأمم المتحدة الذي حظي به المرشح الكوري الجنوبي بان كي مون، وجلس الى يسار
الشيخة موزة زوجها الذي استعجل في فك زر قميصه. وكان مسترخيا، يداعب هذا ويهزأ من اقربائه الذين يلتزمون موقف المجاملة. و لم يتردد في إشعال سيجار.
لقد أمضينا معا ساعتين ممتعتين. الأمير لم يكن مستعجلا لمغادرة المائدة. أما النقاش فقد تركز على الوضع السياسي الدولي وخصوصا الشرق أوسطي. الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، بعكس ما يوحي منظره الخارجي، لديه مواقف حادة أكثر مما يمكن أن نتصور. أما زوجته فإنها تعبر عن موافقتها على ما يقوله وهي أحيانا تكمل كلامه و تأتي ببعض التوضيحات وهي في ذلك بعيدة كل البعد عن دور المرأة  الصورة. النظرات لا تخطىء ابدا. من الواضح للعيون أن الأمير واقع تحت سحر زوجته. هو يبتسم وتلامس الأيدي يدل على طبيعة العواطف التي يكنها، وهي تظهر أنه فخور بان تكون الى جانبه امرأة جميلة وحريص على أن توافقه الرأي. لكن هل يعني ذلك انه واقع تحت تأثيرها كما يحاول الإيحاء به الأعداء داخل عائلة آل ثاني الكبيرة؟ من الصعب تاكيد ذلك. لكن من الواضح أن عمل الشيخة موزة لا يقتصر فقط على الواجبات الرسمية والأعمال الخيرية والتربية ووضع المرأة، الى
الحد الذي يثير حفيظة رئيس الوزراء الذي يقترب من حالة كرهها. كذلك فإن الرجعيين، حتى من بين محيطها المباشر، يشعرون بانزعاج خصوصا عندما يرونها تسافر وحدها وتقرر وحدها وتحل وتربط بكل استقلالية. ذاك المساء، كانت الشيخة موزة مشعة وكانت هي التي تجذب الأنظار.
إذا كانت قطر تتميز عن غيرها من بلدان الخليج، فإن الفضل في ذلك يعود اليها و لتأثيرها على زوجها. و يبدو منتقدوها مقتنعين بذلك. و هم يهمسون به خلف أسوار قصورهم الواسعة. و يهمس ايضا به في الدواوين، أي هذه الإجتماعات التي تعقد دوريا عند هذا أو ذاك للتداول حول الصفقات والترقيات والإشاعات. وإذا كان من غير المؤكد أن الشيخة موزة تتمتع بشعبية، إلا أنه من المؤكد أنها__
تزعج وهي تعي ذلك. ولكن طالما الأمير يعبر لها عن لفتات الإنتباه والرعاية وهي أمور نادرة في العالم العربي وعلى هذا المستوى من المسؤولية، فإن الشيخة موزة لا يمكن المس بها، إلا إذا اعتبرت «عقب أخيل » الذي يمكن عبره التصويب على زوجها. فهل سيلجأ المعارضون الى استغلال نقطة الضعف هذه من أجل زعزعة موقع الأمير؟ من الواضح أن الأمير يحبها. ولكن الى أي حد هو مستعد للذهاب،
من أجل إرضائها مع المخاطرة بالإصطدام بممجدي النظام القديم؟ هي تتمتع بالذكاء الكافي لتعي ما هي الحدود التي يتعين ألا يتم تجاوزها، هذا في حال اعتبرنا أن هذا «الدب الكبير »، اي الأمير، طيب القلب، بحاجة للمشورة ولمن يدله على موقع هذه الحدود. إنه سياسي متمرس كما أنه عسكري يعرف معنى ميزان القوى وسبق له أن اظهر هذه المعرفة في الماضي. هذا الثنائي يبدو، في العمق، اكثر صلابة مما يريد الإيحاء به المراقبون داخل قطر و خارجها.
عندما وصلنا في عشائنا الى نهايته، عمدت الشيخة موزة الى التهكم على ابنتها المتحفظة والتي يحمر وجهها من لا شيء، كما أنها ترتدي عباءة اكثر صرامة من التي ترتديها والدتها، التي مازحتها بأن قالت لي: «إسألها عما ترتديه تحت العباءة ... » وهو ما أخجل الفتاة. هذه الجرأة كانت تبرز لدى الشيخة موزة كل مرة التقيت بها. هي واثقة من نفسها ومن جاذبيتها.
لكنها تعرف أيضا أن تظهر أنها متسلطة، فقد حقرت أمامي رئيس مكتبها ما جعل منه أحد معارضينا الأشداء.
حان وقت الفراق. الأمير أعطى الإشارة. وعمد كل منا الى تقديم التحية من غير احتفالية. الشيخة موزة قالت لي: «الى القاء »، و أنا أتساءل مَن مِن الإثنين يتولى إدارة الحديث في السيارة التي تقودهما الى قصرهما، الذي يبعد عدة كلومترات؟ أراهن أنها هي التي ستقوم بذلك.
الفصل الرابع
«لا متسولون تحت شرفاتنا »
افتتح مركز قطر لحرية الإعلام في شهر نيسان عام 2008 . فقد تلقينا من وزير المالية تحويلا أول قيمته مليون ونصف مليون دولار، مما شكل ميزانية كافية لبدء نشاطاتنا والبدء بإعطاء المنح الأولى لمساعدة الصحافيين المحتاجين والوسائل الإعلامية التي تعاني من صعوبات. تشكل سريعا فريق صغير. ومن أجل كسب الوقت، قمنا بشغل مكاتب مؤقتة تقاسمناها مع الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان. منذ وصولنا، فوجئنا بالعدد الكبير من الموظفين الذين يعملون لصالح هذه المنظمة وكلهم، باستثناء القلة، من القطريين. وسريعا فهمنا أنهم لا يجهدون كثيرا في عملهم، إذ أن المكاتب كانت تفرغ منذ الساعة الواحدة بعد الظهر، وإذا احتسبنا وقت الإستراحة المخصص لاحتساء القهوة التي يقوم بتحضيرها خدم يرتدون أطقمهم، وإذا احتسبنا ايضا أوقات الصلاة، التي يدعى إليها عبر مكبرات الصوت الخاصة بالهواتف، فإن أيام العمل تبدو قصيرة.
في عام 2002 ، صدر مرسوم يحدد مهمات هذه الهيئة التي يقوم عملها على جمع شكاوى ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. ووفق التقرير الأخير عن نشاطات الهيئة، فإنها فتحت، في عام 2008 ، ألفا و ثلاثين ملفا ثلثاها يعود لعمال مهاجرين يشتكون على مستخدميهم الذين إما صادروا جوازات سفرهم أو رفضوا دفع أجورهم أو يعانون من ظروف عمل مهينة، أو يسكنون في اماكن غير صحية.
جاء في التقرير أيضا أن هناك «عددا مقلقا من التجاوزات التي تنتهك حقوق خدم المنازل »، فالخادمات في المنازل يعانين أحيانا من العنف الجسدي والجنسي ويجبرن على ممارسة الدعارة في حال فشلن في إيجاد عمل، أو إذا رفض «عرابهن » إعطاءهن أوراقهن. حتى عام 2009 ، كانت قطر موجودة الى جانب السعودية وبورما وكوريا الشمالية وإيران والكويت وبابوازي  غينيا الجديدة على اللائحة السوداء للدول التي تمارس تجارة البشر. بالمناسبة، توجد في قطر مؤسسة وظيفتها محاربة هذا النوع من التجارة. تعترف مديرتها العامة مريم المالكي بوجود الكثير من حالات التجاوز والإستغلال، غير أنها تدعو الى «التمييز بين حالات فردية وبين جهود الدولة لوضع حد لها ». باختصار، المشهد ليس برقاً، غير أن هذا الواقع لا يمنع رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان علي بن صميخ المري من التأكيد وبكل جدية، في مقابلة مع صحيفة محلية، أن قطر «لا تعرف أية مشكلة في موضوع حقوق الإنسان .»
هل هذا استفزاز أم حماقة؟
بالنسبة للقطريين، فإن أفضل وسيلة للإقتناع بأن لا تجاوزات في موضوع حقوق الإنسان في قطر هو عدم الإلتفات اليها. لقد توصلنا الى هذه القناعة بفضل مريم الخاطر المديرة المساعدة للمركز التي فرضت علينا فرضا، ففيما كنا نزور مكاتب لاختيار مقر المركز، وقع اختيارنا على مبنى بسيط نوعا  ما، مع إيجار معقول. هذه الحجة ذات وزن كبير في مدينة ارتفعت فيها أسعار المباني بشكل خيالي في السنوات القليلة الماضية، غير أن المديرة المساعدة رفضت هذا الخيار بحجة أن المبنى واقع في حي شعبي، ما من شأنه أن يسيء لصورة المركز. أضافت أنها «لا تحتمل أن ترى الفقراء من نافذة مكتبها .»
يبدو بلا شك أننا لم نعر هذه التفاصيل الأهمية الكافية. لقد عزونا ذلك للإختلاف الثقافي واعتبرنا أن إرادة وكلام الشيخة موزة كافيان لتوفير الضمانات من أجل أن ننجز مهمتنا، والحال أننا تلقينا تحذيرات في باريس، البعض نبهنا الى أنه سيتم التلاعب بنا بينما كان آخرون يتهكمون علينا، حيث أن قطر اشترت ضمانة اخلاقية عندما اقترحت علينا الإنتقال الى الدوحة. في أحد الأيام، قال لنا الصحافي برنار غيتا: «إن هذا البلد هو عبارة عن دعابة ». لكننا في هذه المرحلة كنا مقتنعين بأن المهمة تستحق التجريب، طالما كان معروضا علينا القيام بها. بالطبع، السويد كان يمكن أن تشكل خيارا أقل خطورة من اجل إنشاء منظمة دولية للدفاع عن حرية الصحافة...
الفصل الخامس
الأمير يحب اثنان: بلده وباريس
يتلقى القطريون عند الزواج قطعة أرض كما يستطيعون طلب قرض لإشادة منزلهم. ودرج أمير قطر، بموجب التقليد، وبمناسبة العيد الوطني، أن يلغي جانب من ديون رعاياه. يضاف الى ذلك أن الدولة تضمن لهؤلاء مرتبا لمدى الحياة تزاد عليه علاوات لتعليم الأطفال واقتناء السيارة وتجهيز أثاث المنزل لا بل لدفع كلفة النشاطات الإجتماعية. كذلك فإن القطريين لا يدفعون ضريبة الدخل ويتمتعون بالطبابة المجانية داخل الإمارة، كما تقوم الدولة بتغطية كامل كلفة استشفائهم في الخارج. بطبيعة الحال، فإن بعض العائلات تتلقى من الدولة أموالا أكثر من غيرها بدءا بعائلة الأمير، لذا، فإن أفراد عائلة آل ثاني يتمتعون بعائد شهري منذ الولادة وهو، بطبيعة الحال، وبشكل عام، أكبر للصبيان منه للفتيات. لهذا كله، لا سبب يدعو، عموما، المواطنين القطريين المئتي ألف للشكوى من أوضاعهم المالية. ووفق صندوق النقد الدولي، فإن قطر هي البلد الأول في العالم الذي يتمتع فيه الفرد بأكبر عائد من الناتج الداخلي الخام للمواطن الواحد ) 110700 دولار عام 2008 بما في ذلك الأجانب وهو يعادل خمس أضعاف ما هو عليه في السعودية( ويأتي قبل دوقية اللوكسمبورغ .
حتى ثلاثينات القرن الاضي، كان الإقتصاد القطري يقوم بشكل أحادي، على صيد اللؤلؤ. من هنا الإسم الذي أعطي لشبه الجزيرة الصناعية قيد الإنشاء قبالة مدينة الدوحة التي سميت «الؤلؤة .»
وهي تتكون من قوسي دائرة يوحيان بالعقد ويراد لها أن تكون الشعار المعبر لطموحات قطر في الميدان المعماري مع دورها الواسعة ومحلاتها الفاخرة مثل محل ماركة هيرميس حيث تعرض في الواجهة حقيبة تبلغ قيمتها مليون ريال، أي ما يعادل 200 ألف يورو، فضلا عن مرفأي ترفيه، مارينا، وقنواتها المستوحاة من مدينة البندقية. غير أن المكان ما زال قيد البناء وغالبية الشقق فارغة وكذلك المطاعم، إلا أن العاصمة تحفل بيافطات ضخمة تمتدح سحر «اللؤلؤة » التي يفترض أن ينجز البناء فيها عام 2011 . ومن أجل تحقيق هذا المشروع الجنوني الواقع على بعد 350 مترا من الشاطىء، فقد توجب تجفيف 410 هكتارات في البحر و و ملئها ب 16 مليون متر مكعب من التراب. يقف خلف المشروع شركة يونايتد «ديفيلوبمانت كومباني » التي يملكها حسين الفردان، الذي هو في الوقت عينه جواهرجي وجامع لللآلىء التي يملك منها مجموعة تصل الى عشرة ملايين لؤلؤة بينها ما تبلغ قيمته مليون يورو.
-1 هذه التقديرات مصدرها وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وفي العام 2008 بلغ العائد الوطني الخام في قطر 102.3 مليار دولار ما يعني ارتفاعا قيمته 600 بالمائة قياسا للعام 2000 .
غير أن ثروة قطر الحقيقية هي الغاز وتحديدا حقل الشمال، «نورث فيلد »، الذي تبلغ مساحته ستة آلاف كلم مربع وهو أكبر حقل أوف شور للغاز الطبيعي في العالم، وقد تم اكتشاف الحقل، الذي يضمن للقطريين عائدات خيالية طيلة قرنين، في السبعينات. بذلك، تكون قطر بعيدة كل البعد عن الإقتصاد الإصطناعي كما هو الحال عند الجارة دبي التي تعاني من صعوبات اقتصادية جمة.
يتم تصدير غالبية الغاز القطري المسال بناقلات للغاز، حيث بدأت قطر بتشكيل أسطولها الخاص من هذه الناقلات. في عام 2006 ، أصبحت قطر أول مصدر للغاز المسال في العالم، متجاوزة بذلك ماليزيا وأندونيسيا. يتوقع أن يبلغ الإنتاج القطري في عام 2012 حوالي 77 مليون طنا أي ما يساوي 30 بالمائة من الإنتاج العالمي. في عام 2009 ، دشن أمير قطر محطة رأس لفان الواقعة على بعد 80
كلم شمال الدوحة، وهي أكبر محطة للغاز المسال في العالم. المحطة المذكورة ثمرة شراكة قوية بين قطر وشركة توتال .
تراهن قطر كذلك، وبكثير من الجرأة في الإستثمار، على محروق جي تي أل وهو محروق مركب مشتق من الغاز، وستقوم قطر، عبر مشروع «بيرل » وهو وحيد من نوعه في العالم، بتسليم أولى الدفعات من هذا المحروق في العام 2011 . تعتقد السلطات القطرية أنها قادرة على إنتاج مليون طن من هذا المحروق في العام ابتداء من 2012 . في شهر أكتوبر من عام 2009 ، عمدت شركة قطر للطيران الى تسيير رحلة مع ركابها من الدوحة الى لندن في طائرة تستهلك هذا المحروق وحده. لقد حفزت تبعية قطر للغاز وللنفط بدرجة أقل السلطات القطرية الى السعي لتنويع اقتصادها ودعم مشاريع طموحة للتصنيع. وهكذا رأى النور، مشروع ضخم قيد الإنجاز لإنتاج الألومينيوم و مشروع لتوسيع مجمع إنتاج الأسمدة الذي تقوم به شركة «قطر فرتلايزر كومباني » مما سيجعل قطر في مقدمة البلدان المنتجة والمصدرة للأسمدة الكيماوية.
يعول القطريون كثيرا على القطاع السياحي، ولذا، فهناك مطار جديد قيد الإنشاء صمم ليكون قادرا على استقبال خمسين مليون مسافر في العام. يتوقع أن ينجز في العام 2012 . كذلك يجري العمل على بناء جسر، وهو في الوقت عينه بمثابة سد يربط بين قطر والبحرين. يبلغ طول الجسر 43 كلم وسيتم تدشينه في العام 2013 . ينتظر أن تظهر، في السنوات المقبلة، العديد من الفنادق الفخمة، غير أن بعضهم ما زال يشكك في إمكانية تحول قطر الى بلد سياحي.
-2 هذه التقديرات مصدرها وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وفي العام 2008 بلغ العائد الوطني الخام في قطر 102.3 مليار دولار ما يعني ارتفاعا قيمته 600 بالمائة قياسا للعام 2000 .
ذلك أن حرارة الجو في الدوحة تزيد على أربعين درجة في قسم كبير من السنة. كذلك فإن الشواطئ الخاصة قليلة وضيقة كما أنها تقع قبالة ميناء الشحن. ولذا، فإن متحف الفن الإسلامي والرحلات الى الصحراء في السيارات الرباعية الدفع هي تقريبا كل ما يمكن تقديمه للزائر من تسلية، إلا إذا كان الأخير يهوى المراكز التجارية. لكن لا يبدو أن كل ذلك كاف لحث السياح على تمضية عطلهم في قطر.
حدد المسؤولون القطريون هدفا معلنا لاقتصادهم وهو أن يجعلوا حصة النفط والغاز لا تزيد على الربع من العائد الوطني الخام في العام 2015 ، مقابل الثلثين في الوقت الراهن. وتعول الإمارة كثيرا، من أجل تحقيق هذا الهدف، على الإستثمارات القطرية في الخارج وهي التي تتولاها هيئة الإستثمارات القطرية. لقد رأى هذا الصندوق السيادي النور في عام 2005 ويتولى إدارته رئيس الوزراء وتبلغ أصوله 70 مليار دولار. بالطبع، لا زلنا بعيدين عن المبالغ التي يديرها الصندوق السيادي التابع ل أبو ظبي، هيئة استثمارات أبو ظبي، البالغة 875 مليار دولار. غير أن صندوق أبو ظبي أسس قبل ثلاثين عاما.
تنشط هيئة الإستثمارات القطرية بشكل خاص في اوروبا حيث نجحت في الحصول على نسبة 20 بالمائة من بورصة لندن، «لندن ستوك أكستشانج »، في عام 2007 . كذلك، فإنها تملك نسبة 27 بالمائة من شركة ساينسبوري الضخمة الناشطة في قطاع التوزيع و 8 بالمائة من بنك بيركليز. فضلا عن ذلك، ومن بين ما تملكه، حصصا في مجموعة لاغاردير وفي شركة «سويس أونفيرونمان » للبيئة ومجموعة من الكازينوهات على الشاطىء في مدينة كان، الشاطىء اللازوردي. في العام 2008 ، اشترت مئة بالمئة من شركة سيجيليك المتخصصة في الهندسة الكهربائية ثم عمدت الى بيعها بعد عام واحد مقابل حصة في رأسمال شركة فينسي الكبرى للإنشاءات والتعمير، وهي الشركة التي عهد اليها بناء السد الرابط بين قطر والبحرين. في عام 2009 ، وعدت «هولدينغ قطر » المتفرعة عن صندوق الإستثمار القطري، بضخ مبلغ 7 مليارات يورو في عملية الدمج بين شركتي بورش وفولكسفاغن للسيارت. من المتوقع أن تصل حصة قطر من المجموعة الى عشرين بالمئة. فاوضت هيئة الإستثمارات القطرية شركة برادا للدخول في رأسمالها. غير أن قطاع العقارات هو الأكثر اجتذابا للهيئة المذكورة خصوصا في باريس. وتتولى شركة تدعى «أليبون » مع مكتب المحاماة «دولوات » بتقديم المشورة للأسرة الحاكمة في ما خص استثماراتها العقارية في فرنسا. يتمتع الأمير وكذلك عائلته بمعرفة عميقة في هذا القطاع إذ أنه يمتلك شقة فاخرة، «دوبلكس، في شارع ريفولي، مقابل حدائق تويلري كما يملك دارة خاصة في محلة مارن  لا  كوكيت، الواقعة غربي باريس ناهيك عن فيلا في محلة شاتونوف  غراس، في منطقة ألب ماريتيم. في عام 2003 ، اشترى أمير قطر «فندقا خاصا » واقعا في ساحة فاندوم يسمى «فندق أيفرو » مع «فنادق خاصة » اخرى مجاورة. قدر الثمن المدفوع ب 250 مليون يورو من دون احتساب الأشغال الضرورية، لمساحة تبلغ 47 ألف متر مربع.
قبل عامين، عمد شقيق الأمير الى شراء «فندق لامبير » الخاص الذي كان ملكا للبارون دو روتشيلد بمبلغ 80 مليون يورو. وهذا الفندق الخاص الذي شيد في القرن السابع عشر هو من تصميم المهندس المعماري لويس لو فو في فترة شبابه. تعاقبت على السكن فيه شخصيات بارزة أشهرها شوبان وفولتير. ويعد «قصر لامبير » من أجمل ما هو مشيد في جزيرة سان لوي. لقد أثار مشروع تجديده والأعمال التي ستنجز لتأهيله سجالا واسعا شاركت فيه شخصيات شهيرة مثل الممثلة ميشال مورغان، التي سكنت سابقا فيه، كذلك شخصيات أكاديمية ومؤرخون وأفراد عاديون متمسكون بالتراث العمراني. ونجحت عريضة شعبية بجمع ثمانية ألاف توقيع، لا بل إن بولندا نفسها اعربت عن قلقها من مشروع تجديد هذا المبنى، الذي قد يطيح بالمسحة البولندية » لهذا القصر الذي كان ما بين عامي 1843 و 1975 ملكا لعائلة الأمراء زارتوريسكي. عقب ذلك، قامت جمعية تسمى «باريس
التاريخية » بتقدجيم شكوى للمحكمة حيث طالبت بوقف أعمال التجديد وهو ما حصلت عليه.
كانت وزارة الثقافة التي كانت تديرها في ذلك الوقت الوزيرة كريستين البانيل قد سمحت بإجراء أشغال التجديد.
من الجوانب الخلافية في مشروع التجديدي، إنشاء أربعة مصاعد وعشرين حماما، أحدها في الغرفة التي كان نيكولا لامبير يستخدمها مكتبا له، وهو يحتوي على عارضات خشبية مزخرفة. كذلك، كان مشروع أشغال التجديد ينص على إقامة مرآب يستوعب خمس سيارات ومجهز بمصعد خاص لها، وكانت كلفة أشغال التجديد التي وافق عليها المشرف العام على المباني التاريخية ألان شارل
بيرو تصل الى أربعين مليون يورو، ووفق ما قاله المحامي جان برتليمي، المكلف من قبل العائلة القطرية، للمحكمة الإدارية في باريس، فإن هذه الأعمال ضرورية لجعل المكان «قابلا للسكن » مضيفا أن العائلة المشترية «كثيرة العدد ». وذهب المحامي المذكور الى الشكوى من أن سبب التعرض للشاري مرده لكونه
«غريبا ». ولو بالغ المحامي قليلا لكان استدعى جمعية الدفاع عن ضحايا العنصرية.
بالنظر لكل ما تقدم، أدلى رئيس بلدية باريس برتراند دولانويه بدلوه رافعا الصوت ضد «الإبادة » التي يتعرض لها «قصر لامبير ». غير أنه غيّر رأيه لاحقا بعد زيارة قام بها الى الدوحة بداية عام 2009 حيث استقبله أمير قطر نفسه بحفاوة واضحة. بعدها، اعتبر دولانويه أن إجراء الأشغال لا يشكل عائقا.__
ما زلنا نذكر حفل الإستقبال الذي أقامه سفير فرنسا في الدوحة بمناسبة هذه الزيارة الرسمية وخطابه الذي يقترب قليلا من الهذيان حيث نوه بنجاح قطر في «رهانها بتحقيق الحداثة من غير التضحية بتقاليدها الغنية والضاربة في جذور التاريخ... ». ما هي الوعود التي تلقاها رئيس بلدية باريس من أمير قطر حتى يستلهم مثل هذا الكلام وليتخلى خصوصا عن معارضته لمشروع شقيق الأمير في جزيرة سان لويس؟ لدى مغادرته الدوحة، أشار دولانويه باقتضاب الى «شراكات قيد الإعداد » من غير إعطاء مزيد من التفاصيل.
تملك قطر، عبر صندوقها السيادي، مركز المؤتمرات الدولي الاسبق الواقع في جادة كليبر وهو يخضع حاليا لأشغال لتحويله الى فندق من فئة خمس نجوم. كذلك تملك قطر فندق رويال مونسو ومجموعة من الأبنية الواقعة على جادة الشانزليزيه وفي شارع بونتيو. عمدت قطر الى شراء مجموعة واسعة من المكاتب ما بين الأوبرا و كنسية المادلين ودفعت لذلك مبالغ تصل الى 300 مليون يورو. و تدرس
قطر عرضا لشراء مجموعة أخرى من المكاتب في جادة الشانزليزيه تبلغ قيمتها 160 مليون يورو.
في نهاية عام 2005 ، باعت قطر المبنى الذي يضم محلات فوشون و مكاتب شركة الطيران القطرية الواقع في ساحة «المادلين » بمبلغ 43 مليون يورو، مما سمح لها بتحقيق أرباح تبلغ 30 بالمائة من قيمة الشراء. يقع المقر الأوروبي لهيئة الإستثمارات القطرية القائم في «فندق كوازلين » الملاصق لفندق كريون، في ساحة الكونكورد. هذا المبنى ملك للأمير، ويتقاسم أربعة موظفين 3600 متر مربع من المكاتب.....
إذا كانت قطر تستثمر في العقارات و الأبنية الباريسية، فليس ذلك فقط حبا بجمال المباني وجمال حجاراتها، ذلك أنه في يناير من عام 2008 ، وقع الرئيس ساركوزي خلال زيارته الرسمية الى الدوحة اتفاقية مع قطر «تهدف الى تحسين جاذبية فرنسا للمستثمرين القطريين و تحديدا في القطاع العقاري »، وقام البرلمان الفرنسي بالتصديق على الإتفاقية في شهر شباط من عام 2009 . يعفي
القانون المستثمرين القطريين في القطاع العقاري من دفع الضرائب على الأرباح التي يحققونها في عملياتهم، و يشمل الإعفاء أيضا كل الهيئات المتفرعة عن قطر و كذلك «العائلة الحاكمة ». إنها هدية رائعة من الرئيس الفرنسي لصديقه أمير قطر، لا بل إنها نظام تفضيلي أعطي له مقابل توقيع عقود مربحة مع الصناعات الفرنسية.
تستطيع البعثة الفرنسية الإقتصادية في الدوحة أن تفرك يديها اغتباطا. ذلك أنه لا يمر شهر واحد من غير أن تفوز شركة فرنسية بعقود مربحة. فشركة طيران قطر هي احد أفضل زبائن شركة أيرباص إذ أنها تستخدم 19 طائرة من طراز 321/A320 كما أنها أوصت، خلال معرض لوبروجيه للطيران في عام 2009 ، على 24 طائرة إضافية من هذا النوع. تبلغ قيمة الطائرات الجديدة ملياري دولار. يضاف الى ذلك أن الشركة المذكورة تنتظر تسلم 80 طائرة من طراز A350 بعيدة المدى التي سيبدأ تسليمها في العام 2013 . تبلغ قيمة عقد الشراء الذي وقع في قصر الأليزيه في شهر مايو من عام 2007 حوالي 16 مليار دولار وفق الأسعار الرسمية. أخيرا فإن شركة الطيران القطرية أوصت على خمس طائرات من طراز A380 الضخمة.
تتولى شركة فينسي، مثلما ورد سابقا، تنفيذ مشروع إنشاء اكبر جسر في العالم ما بين الدوحة و البحرين. وقد تم تكليف مجموعة السويس  غاز فرنسا مهمة إنشاء محطة لتحلية مياه البحر في قلب الصحراء. و في شهر أكتوبر من عام 2009 ، فازت شركة بويغ بعقد بناء من مجموعة بروى العقارية القطرية قيمته 916 مليون يورو. وكان قطب «النقل و التوزيع » العائد لشركة أريفا قد فاز في العام 2008 بأكبر عقد يحصل عليه في تاريخه و قيمته أكثر من 500 مليون يورو من
الشركة العامة للكهرباء و المياه القطرية . وفي العام نفسه، وقعت شركة كهرباء فرنسا ودولة قطر بروتوكول اتفاق يضمن للشركة الفرنسية ضمها الى مشاريع إمارة قطر بشأن اللجوء الى النووي المدني ومشاريع تطوير الطاقة البديلة وخصوصا الطاقة الشمسية.
لا يتعين أن ننسى القطاع العسكري المربح كثيرا لفرنسا. وإذا ما فازت شركة يوروكوبتر وهي شركة متفرعة مئة بالمئة عن شركة EADS للصناعات الجوية و الفضائية بعقد بيع حوالي عشرين طوافة للجيش القطري، فإنها تحصد حوال مليار ونصف مليار يورو. وكانت الشركة الأم باعت قطر نظاما للرقابة على الحدود قيمته 240 مليون يورو.
مثل هذه العقود تستأهل حقا هدايا ضريبية للقطريين، وبيع فندق لامبير وبعض السجاد الأحمر.
فبعد ثلاثة اسابيع فقط على انتخابه، كان أمير قطر أول رئيس دولة عربي يدعى الى قصر الأليزيه، وبعد ذلك بشهر ونصف، كان أمير قطر و زوجته الشيخة موزة الى جانب الرئيس الفرنسي إلى المنصة الرسمية لحضور العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني في 14 يوليو. وكان أحد أبناء الأمير، الشيخ جوعان، مشاركا في العرض لآنه كان احد المتخرجين من مدرسة سان سير العسكرية.
وجاء درو الرئيس ساركوزي لزيارة قطر في عام 2008 حيث رافقته بعثة ضخمة. و في شهر يوليو من العام نفسه، كان الأمير وزوجته مجددا على جادة الشانزليزيه لحضور العرض العسكري. و جاءا معا الى باريس في شهر يونيو من عام 2009 في إطار زيارة دولة. بهذه المناسبة، وبدعم من قصر الأليزيه، قبلت الشيخة موزة في أكاديمية الفنون الجميلة بصفتها عضوا أجنبيا مشاركا. و كان من
بين الشخصيات التي حضرت الحفل سيغولين روايال ورشيدة داتي. في الخطاب الذي ألقته، شددت الشيخة موزة على حوار الحضارات والتصالح بين الثقافات، مشيرة الى خليفة قرطبة الذي أثرى الأندلس بأن منحها إرثا فنيا. بعد الحفل، انصب المحتفلون على الموائد لتذوق شراب الورد والتين المجفف والحلويات العربية المقدمة في صالونات المساة كان. في شهر نوفمبر من عام 2009 ، جاء دور كارلا ساركوزي لزيارة قطر حيث شاركت في أول قمة تعقد في الدوحة تحت عنوان «القمة العالمية لتجديد التعليم » التي نظمتها مؤسسة قطر. شارك في القمة ما لا يقل عن ألف خبير من 120 بلدا منهم 31 وزيرا والمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودير ورئيسة الحكومة الفرنسية السابقة اديث كريسون ومجموعة كبيرة من رؤساء الشركات العالمية وأكثر من مائة منظمة غير حكومية. كل هؤلاء
توافدوا بغرض النظر في الطرق الآيلة الى التخفيف من الفروقات في موضوع تلقي التعليم. وحدها ميشيل أوباما اعتذرت عن المجيء في آخر لحظة بحيث خلت ساحة النجومية لسيدة فرنسا الأولى وللشيخة موزة التي تحدثت بصراحة لتشكو من «الموت السريري » الذي آل اليه مشروع «التعليم للجميع » وهو أحد اهداف الألفية الثانية التي حددتها الأمم المتحدة. ولقد استفادت كارلا بروني  ساركوزي التي «اوصلها » زوجها الى الدوحة و هو في طريقه الى المملكة السعودية، من المناسبة لتسليم الشيخة موزة وثيقة تؤكد على استعداد المعاهد الفرنسية الكبرى مثل مدرسة التجارة العليا لفتح فروع لها في المدينة التعليمية في قطر. حرص قصر الأليزيه على التأكيد على أن هذه البادرة «ليست رسمية ». و لكن هل يمكن اعتبارها مترفعة عن كل غرض؟
العلاقات بين الرئيس ساركوزي والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني هي علاقات مميزرة، غير أن الأمير و المقربون منه يعرفون أن الديمقراطية تعني تداول السلطة رغم أنهم هم بعيدون عن هذه الممارسة.
لذا، فمن الأفضل تفادي إغضاب أي من الطبقة السياسية الفرنسية. هكذا، فالرئيس شيراك زار قطر تسع مرات خلال عهديه الرئاسيين، وخلال زيارة قريبة له، ذهب شيراك الى حد القول إن «قطر بطبيعتها ديمقراطية ». في عام 2006 ، وقع شيراك مقدمة كتاب فاخر بعنوان: «قطر: رحلة رائعة عبر الخرائط القديمة ». بدوره، كتب الرئيس ساركوزي في عام 2008 ، سعيا لمحاكاة شيراك، مقدمة
كتاب بعنوان: «قطر والفرنسيون: خمسة قرون من روايات الرحالة والنصوص العلمية ». يضاف الى__
ذلك أن الشخصيات السياسية الفرنسية من الصف الأول تدعى بشكل دوري الى الدوحة والى الحفلات الفخمة التي يقيمها سفير قطر في باريس محمد الكواري، ففي عام 2008 ، أقيم على شرف سيغولين رويال في مبنى السفارة القائمة في أحد أجمل الأبنية في العاصمة، في ساحة قوس النصر «الأيتوال »، ومقابل قوس النصر، عشاء «ودي وعلى أنغام الموسيقى »، وأتيحت للمرشحة الرئاسية السابقة أن تدعو من تشاء، فيما قامت دولة قطر بدفع كلفة الطعام والموسيقيين. بعد
ايام، طارت روايال الى الدوحة للمشاركة كنجمة في المنتدى الثامن للديمقراطية والتنمية و التبادل الحر. وقد أضحكت المداخلة التي قدمتها الحضور، عندما قارنت بين قطر وبين منطقة بواتو  شارنت بإشارتها الى الجهود التي تبذلها المنطقة من أجل تشجيع تربية الماعز... لا شك، إننا نستطيع ان نحصي في الإمارة سيارات بورش كايين أكثر مما يمكن أن نحصيه من الماعز. خلال العشاء الرسمي،
كان لسيغولين روايال أن تكون على طاولة الأمير والشيخة موزة. وكان دومينيك دو فيلبان، المقرب من العائلة الحاكمة، حاضرا ذاك المساء. إلا أنه اغتاظ عندما وجد أن مكانه بعيد، فما كان منه إلا أن غادر العشاء.
ينتمي فيليب دوست بلازي، وزير الخارجية السابق والأمين العام المساعد حاليا للأمم المتحدة، المكلف ملف عمليات التمويل المتجددة، الى دائرة المعتادين على زيارة القصر الأميري. كذلك حال وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي المعروفة في قطر بسبب كثرة زياراتها لها. ففي عام 2008 ، كانت تقوم بزيارة قطر مرة في الشهر و كانت كل مرة تفرض على السفير الفرنسي في الدوحة أن يكون في استقبالها عند وصولها، و إن كان ذلك في الثانية بعد منتصف الليل. لاشك أن التعاون القضائي بين البلدين وافتتاح المعهد الوطني للقضاء في الدوحة على طراز المعهد الفرنسي، تنفيذا لاتفاق وقع في عام 2008 هما الملفان اللذين يتطلبان من الوزيرة هذا الإنخراط الشخصي، ولكن ربما ليس الى هذا الحد.
أكثر من مرة، سافرت رشيدة داتي الى قطر مع عائلتها، مع والدها واخواتها. وجدت إحدى أخواتها وظيفة في وزارة العدل القطرية. أقل ما يمكن أن نقوله عند رؤيتها مرتدية فستان ميني جوب وهي تلتحق بمجموعة من الأعيان القطريين على طاولة العشاء في مطعم فندق «الشرق فيلادج » أنها لاتريد المرور من غير أن يراها احد.
أدت رحلات رشيدة دات المتلاحقة الى قطر الى تغذية الإشاعة التي تقول إن مدعي عام قطر علي بن فطيس المري قد يكون والد ابنتها زهرة، المولودة في 2 كانون الثاني عام 2009 . هذه الفرضية طرحها
الصحافيان ميكاييل دارمون وأيف دراي، مؤلفا كتاب »Belle Amie« المخصص ل داتي. و هذه الشائعة تدفع المري الى الإبتسام. هذا المدعي العام المقرب من الأمير والذي يتحدث الفرنسية، دعاني عدة مرات، رغبة في مناقشة التطورات الممكنة لموضوع حرية الصحافة في قطر. المري خريج جامعة
السوربون و كان في شهر يوليو من العام 2009 عضوا في اللجنة التحكيمية لمناقشة أطروحة دكتوراه قدمتها في باريس طالبة مصرية. دأب المري الذي يتكلم لغة فرنسية لا غبار عليها، على تشجيعي على الإستمرار في مهمتي من أجل الحصول على إصلاح قانون الصحافة المهترىء. كان باستمرار يدعوني الى الصبر و التزام الحذر لتفادي أن تسحقنا القوى المحافظة في الدولة. قال يوما، وهو يقدم لي تمثالا صغيرا من الجبس يمثل حيوان المهى «أوريكس »، وهو المفضل عند القطريين، وكان مهددا في السابق بالزوال، لو لم تعمد الدولة الى إقامة المزارع لتربيته: »نحتاج الى الوقت من أجل أن تتغير العقليات في قطر ». بالطبع، الأوريكس أنقذ لكنه فقد حريته...
يوما سألته عن الشائعات التي تتناوله والخاصة بأبوته ل زهرة، ابنة رشيدة داتي. وكان جوابه وهو يبستم أن لا فائدة من التكذيب إذ أن ذلك «لن يفضي إلا الى تزايد الإشاعات » مضيفا أن هدفه الوحيد هو «الإستمرار في العمل من أجل تعميق العلاقة بين قطر و فرنسا ». إذا، كل ما فعله المري هو من أجل المصلحة العليا للبلدين، ومن أجل ذلك أيضا فإنه قدم ل رشيدة داتي، وفق مؤلفي الكتاب المذكور، حلي من صنع كارتيه وشوميه.
في حفلات الإستقبال المتكررة، نلتقي الكثير من الناس في سفارة فرنسا في الدوحة. مسكن السفير جذاب إذ يقع قريبا من الشاطىء. اللقاءات و المؤتمرات و المنتديات أصبحت صناعة حقيقية في قطر، والمدعوون يتدافعون اليها، الفرنسيون و غير الفرنسيين. من جانب، تتكاثر الخطابات حول التقارب الثقافي والحوار بين الأديان وضرورة مواجهة مبدأ «صراع الحضارات »، ومن جانب آخر، تنسج
«الشراكات » وتمد طاسة التسول. ذلك أن الريال القطري عملة يمكن تحويلها. في قطر، السياسيون يتدافعون وأرباب العمل يقهقهون. بعيدا عن باريس، تنسى النزاعات الإيديولوجية والمواجهات، وأذكر أنني التقيت مرة، وفي المساء عينه حول مسبح دارة السفير، الإشتراكي مانويل فالس والوسطي موريس لوروا ووزيرة الإنفتاح فاضلة عمارة. وكان ألان جوبيه هو الذي يتحدث. جوبيه لم يبالغ في
الحديث عن الصداقة الفرنسية  القطرية مثل الرواد المعتادين لفندق الشيراتون حيث تعقد غالبية المؤتمرات في الدوحة. ولكن لا حاجة لأن يكون الشخص مسؤولا سياسيا أو صناعيا ليحلم بالخزنة القطرية. فما كاد تعييني على رأس المركز الدوحة يشيع حتى وجدت مجموعة من «الأصدقاء الجدد »__
يطرقون بابي، كلهم يريد أن يعرف كيف الوصول الى «سموها »، الشيخة موزة، من أجل تسليمها ملفا، أو يريد الحصول على رقم هاتف. منهم من يعمل في حقل «الموضة » ومنهم يقترح «سلعة متجددة لا بد منها » بينما الآخر يجهد في التخطيط لمشروع في حقل الإعلام. أذكر أنه جاءني زميل يطلب مني التدخل لصالح صحافية سرحت حديثا من مجموعة إعلامية وهي بصدد إنشاء وكالة
«رائعة » بطبيعة الحال للإنتاج التلفزيوني. وبدا لي أن هذه الصحافية كانت توجه اليّ سهام الإنتقاد منذ فترة ليست ببعيدة...
الفصل السادس
باريس  الدوحة: المحور الرابح في الإتجاهين
لا تشكل العقود والإستثمارت العقارية الواجهة الوحيدة للعلاقات الممتازة بن فرنسا وقطر. ذلك أن الإمارة قد أصبحت، منذ العام 2007 ، الورقة الرابحة في دبلوماسية الرئيس ساركوزي. ففي شهر يوليو من ذلك العام، ساهم اتصال هاتفي من الشيخ حمد بن خليفة الى الزعيم الليبي معمر االقذافي في إخراج المفاوضات التي كانت جارية بين باريس وطرابلس بخصوص الممرضات البلغاريات الخمس والطبيب الفلسطيني، من الطريق المسدود. هؤلاء كانت تتهمهم طرابلس بنقل فيروس الإيدز الى عدة مئات من الأطفال اللييين. تؤشر السرية التي أحاطت بالمفاوضات الهادفة الى تسوية هذا الملف حيث كانت تلعب سيسيليا ساركوزي النارية دور الوسيط، الى احتمال أن تكون قطر قد تولت دفع مبلغ 460 مليون دولار كتعويضات لليبيا. يرجح الدبلوماسيون القريبون من الملف ألا يكون هذا المبلغ قد دفع بل إن تدخل الأمير كان لإيجاد مخرج يحفظ ماء الوجه للعقيد القذافي. لا يحيد المسؤولون القطريون عن الرواية الرسمية وهي أن دور بلدهم كان «إنسانيا محضا .»
في العام 2007 ، ساعد المسؤولون القطريون الرئيس الفرنسي على إعادة وصل خيوط الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد. كان الرئيس شيراك قد قاطع الأسد بسبب دوره المزعوم في اغتيال صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. لقد شارك امير قطر شخصيا في المؤتمر الصحفي، الذي عقد في قصر الأليزيه في 12 يوليو 2008 بحضور الرئيس نيكولا ساركوزي و الرئيس اللبناني ميشال سليمان.
في شهر مايو من عام 2008 ، كان تدخل الأمير حاسما للتوصل الى اتفاق بين اللبنانيين  اتفاق الدوحة من أجل تسهيل انتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية. كان ذلك بمثابة انتصار دبلوماسي كلف قطر ما يزيد على ملياري دولار.
مرة أخرى، لجأ الرئيس ساركوزي الى الشيخ حمد لنقل رسالة الى الحركة الإسلامية الفلسطينية حماس من والد الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الى الأخير المحتجز في قطاع غزة. ولجأت باريس الى قطر لنقل رسائل الى النظام الإيراني.
غير أن التعاون الدبلوماسي بين باريس و الدوحة تخطى نطاق الشرق الأوسط. ذلك ان البلدين يعملان معا للوصل الى تسوية لملف النزاع في دارفور. من الواضح أنه عندما تكون ثمة حاجة لإخراج دفتر الشيكات، فإن الأمير هو الذي يبادر الى ذلك. يبدو أن قطر مستعدة لدفع مبلغ 500 مليون دولار لإعادة إعمار وتطوير مقاطعة دارفور.
 باريس  الدوحة: إنه محور الأرباح المتبادلة. تنظر باريس الى المساعدة التي يمكن أن تقدمها الدوحة كفرصة لإظهار فرنسا على أنها وسيط لا يمكن تجاوزه على المسرح الدولي. أما بالنسبة لقطر، فإن الغرض هو تفادي أن ترهن كل أوراقها بالولايات المتحدة الأميركية.
ان هدف الدبلوماسية القطرية هو أن تكون علاقات الدوحة جيدة مع الجميع. مرة عبرت الشيخة موزة عن ذلك بقولها: «زوجي يدخن السيجار الذي قدمه له فيديل كاسترو، وأنا أعمل معك. هذا ملخص جيد لوضع قطر ». الدكتاتور الكوبي ليس الصديق الوحيد للعائلة الأميرية. فبشار الأسد يأتي غالبا الى الدوحة للتبضع بصحبة زوجته اللطيفة، وخالد مشعل يستقبل غالبا في القصر الأميري مثلما الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يملك منزلا في الدوحة. قطر تراعي أوضاع الجميع. فهي قدمت الملجأ لأرملة صدام حسين ولزعيم شيشاني مسلم يلاحقه الروس كما أنها البلد الوحيد الذي يقيم علاقات، وإن واهية مع إسرائيل. حتى بداية عام 2009 ، كان عدة دبلوماسيين إسرائيليين يقيمون في «البعثة التجارية » في الدوحة. وبعد بدء عملية «الرصاص المسكوب »، أمرت السلطات القطرية بإغلاق المكتب المذكور الذي كانت فائدته الوحيدة، وفق شهادات العديد من الأجانب في الإمارة، في تزويد السوق السوداء بالمشروبات الروحية.
رغم الحرص القطري على علاقات جيدة مع العالم أجمع، فإن الدوحة ليس لها أصدقاء فقط، وقد تبين لنا ذلك في شهر يناير من العام 2009 عندما كنا نحاول مع مجموعة من 17 صحافيا من جنسيات عدة الدخول الى قطاع غزة المحاصر عبر المرور بمعبر رفح في مصر. ورغم ستة ايام من المفاوضات ودعم العديد من السفارات ورغم الطابع الإنساني لبعثتنا، فإن الموظفين المصريين رفضوا رفضا قاطعا السماح لنا بالعبور ولسبب معلن وهو أننا نمثل منظمة قطرية. ولقد شرح لنا احد ممثلي السلطات المصرية ذلك بقوله: «إنها كلمة الدوحة التي تزعجنا وهي الموجودة في اسم منظمتكم ». لكن أخيرا، نجح مركز الدوحة في إيصال المساعدات الضرورية للصحافيين وهي كناية عن سترات واقية من الرصاص وواقية من الشظايا وخوذات وحقائب الإسعافات الأولية وآلات تصوير وكاميرات وذلك بفضل الهلال الأحمر.
لا يبدو أن مصر وقطر قادمتان على تسوية لخلافهما. ذلك أن القاهرة تتهم الدوحة بالسعي لطمس دورها على المسرح العربي، من خلال الإكثار من المبادرات الدبلوماسية الفجائية، وبكلام أوضح، فإن الدوحة تسعى للتغطية على مصر. وقد رد رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني على هذه الإتهامات بقوله، في يونيو عام « :2009 إن قطر ترفض أسلوب بعض المسؤولين المصريين الذين يدعون الى سياسة تتسم بالازدواجية ويريدون تصدير فشلهم في الحكم بإظهار بعض الحساسيات غير المفهومة ومن خلال رفضهم عقد قمم عربية وإسلامية في الدوحة »، وأضاف الشيخ حمد أن تسوية الخلاف مع مصر يمكن أن يتم غدا أو بعد عشرة أعوام ». لا توفر الدوحة أية فرصة للحط من الدبلوماسية المصرية، كما حصل في عام 2009 حيث فشلت مصر بشكل ذريع في إقناع المتمردين في دارفور لتوحيد صفوفهم وتشكيل جبهة واحدة للتفاوض مع الحكومة السودانية، حيث أبرزت الصحف القطرية على صدر صفحاتها الأولى هذا الفشل.
تبدو العلاقات بين قطر وجارتها الكبرى، المملكة السعودية، أكثر تعقيدا، فالعلاقات بين الشعبين كانت دائما صعبة، وعائلة آل سعود تعتبر نفسها متفوقة على عائلة آل ثاني وكثير من الأمور لدى القطريين تثير حفيظة السعوديين. رغم أن الطرفين يتبعان المذهب الوهابي المتزمت، فإن القطريين يبدون أكثر ليبرالية، خاصة في ما يتعلق بموقع المرأة في المجتمع أو بخصوص التسامح إزاء العمال الوافدين. ففي الدوحة، النساء تتعلم وتشتغل وتقود السيارت والأجانب يستطيعون ممارسة شعائرهم الدينية بحرية أو استهلاك الكحول في منازلهم مقابل حصولهم على ترخيص. لا شيء من ذلك كله ممكن في الرياض. خلال سنوات، طرحت السعودية نفسها كزعيمة للمنطقة بحيث يتعين على الإمارت الصغيرة إظهار الإحترام لها. كما المصريين، فإن السعوديين لا يقبلون أن تسرق قطر منهم الأضواء على المسرح الدولي عبر الإكثار من الوساطات والقمم، كما أنهم يتحملون بصعوبة الوقاحة التي تتميز بها قناة الجزيرة إزاءهم. لقد قررت السعودية استدعاء سفيرها في الدوحة عام 2002 بعد أن بثت الجزيرة برنامجا انتقدت فيه بشكل مباشر الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة.
لا مدعاة للتعجب إذاً، في حال كانت مصر والسعودية قد رفضتا المشاركة في القمة الطارئة التي دعت اليها قطر في الدوحة، في شهر يناير من عام 2009 ، حيث حتى اللحظة الأخيرة، بقي الغموض يلف عدد الدول التي تنوي المشاركة في القمة. في الأيام التي سبقت موعد القمة، كانت الأرقام تصعد وتهبط بينما المطلوب مشاركة 14 بلدا. تم التوصل الى هذا الرقم خمس مرات متتالية، في كل مرة، كان هذا البلد أو ذاك يغير رأيه خاضعا بذلك لضغوط الرياض أو القاهرة. في الوقت الذي كان يعاني فيه شعب غزة من المأساة، فإن القادة العرب كانوا يعرضون على الملآ انقساماتهم، التي يصعب التغلب عليها، وبطبيعة الحال، لم تكن لهذه القمة أية فائدة. كان الإعلان العملي الوحيد قرار سوريا، بالتفاهم مع تركيا، تجميد المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. غير أن لقاء الدوحة أظهر مرة أخرى عزم أمير قطر على تولي دور قيادي في المنطقة عبر تحريك الخطوط الدبلوماسية المجمدة منذ وقت طويل. فقد شارك 14 رئيس دولة عربي أو من يمثله في اجتماع الدوحة رغم الضغوط الهائلة، وقد أعلن الرئيس الفلسطيني نفسه لرئيس الوزراء القطري أنه يواجه تهويلا لمنعه من المشاركة، لا بل إنه هدد ب »الذبح » في حال مشاركته. غير أن الإجتماع حصل وتم الحفاظ على الكرامة، حيث أشارت الصحافة القطرية الى أن القادة المتواجدين في الدوحة يمثلون 233 مليون عربي بينما الغائبون لا يمثلون سوى 129 مليون شخص... كان الإعتداء الإسرائيلي على غزة الذي أوقع في ثلاثة اسابيع 1350 قتيلا، بينهم أكثر من 400 طفل، مناسبة لأن نشهد في قطر حدثا غير معهود. فإذا كان الدستور الجديد الذي صوت عليه في العام
2003 يسمح بحصول مظاهرات، غير أن كل تجمع يجب أن يحظى بإذن من دوائر الشرطة، بحيث لم نشهد في قطر أبدا يافطات، ولكن في 13 يناير من عام 2009 ، تظاهر عدة آلاف من الأشخاص على كورنيش الدوحة للمطالبة بوقف القصف الإسرائيلي وللتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني.
كانت الجماهير المشكلة من قطريين بزيهم الوطني ومن أجانب من كل الجنسيات ، تثير الدهشة.
والمدهش أيضا أن الشيخة موزة بنت ناصر المسند كانت تقودهم شخصيا. بالطبع، الأخيرة لا تكف عن مفاجأتنا باستمرار.
الفصل السابع
في قلب «غرفة الرقابة
النزهات على متن سيارات الدفع الرباعي باتجاه الكثبان الرملية القائمة جنوب الدوحة هي من بين وسائل الترفيه المفضلة لدى القطريين في نهاية الأسبوع. فبعضهم يستأجر خيمة من الطراز البدوي، المجهزة بكل أسباب الراحة، بما في ذلك التكييف، طيلة العام، ذلك أن الحرارة تتخطى بسهولة الخمسين درجة في الصحراء ومن العبث البحث عن الظل. أما البعض الاخر، فيكتفي بالقيام بالذهاب
والإياب، في اليوم نفسه، من أجل حفنة من المشاعر والإثارة من خلال تسلق الكثبان المدهشة، التي يزيد ارتفاعها أحيانا على أربعين مترا عاموديا. كذلك، فإن بعض المتاجر الضائعة في قلب الصحراء تؤجر دراجات نارية بأربع عجلات للأكثر شجاعة. لكن للذين لا يحبون المغامرة والمخاطرة، فإن ما يثير
اهتمامهم حقيقة هو التوجه الى شاطىء البحر الداخلي عند الحدود القطرية  السعودية. على مسافة ساعة ونصف من العاصمة، إذا تفادى السائق الإلتفافات وكذلك المغامرة في سيارة الدفع الرباعي، فهناك تنفتح أمام الزائر مشاهد رائعة حقا، حيث الشمس في مسارها تتسلى بتغيير ألوان المشهد الجامد الذي يتشكل من السماء و المياه و الرمال.
الإبحار في هذه المياه ليس متاحا، لكن السباحة ممكنة وهي تستحق المجازفة، ومن نافل القول أن حرارة المياه تشجع على الخوض فيها، غير أن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو الشعور بغياب الجاذبية بسبب كثافة الملوحة في المياه. بعد عدة حركات في المياه، يخرج السابح من المياه وهو مغطى بطبقة من ملح قطر، أما على الشاطىء، فإن الملح يتشكل كالقشور ويعطي انطباعا بأنه تحول الى اسمنت.
هذا المكان يغرق عادة في بحر من الهدوء ايام الأسبوع، إلا إذا وقع السائح على كتيبة من جنود أميركيين في إجازة. هؤلاء يأتون للراحة ويتسلون بممارسة رياضة كرة السلة وبالإستماع الى ال »R AND B« . إنه المكان الوحيد تقريبا في قطر حيث تتاح الفرصة لملاقاة عسكريين أميركيين. ذلك أن الحضور الأميركي الكثيف في قطر يتميز بأنه خفي، إذ أن الجنود لا يتركون قواعدهم إلا نادرا. أما
عندما يذهبون الى المدينة، وهو أمر نادر، فإنهم يتجولون بثيابهم المدنية، وزوجا زوجا، إذ ان التوجيهات المعطاة لهم هي ألا يشعر احد بوجودهم.
هكذا، فإن السكان لا يتذكرون أنه في مكان ما في الصحراء توجد قاعدة العديد العسكرية الجوية الأميركية الضخمة، التي انطلق منها غزو العراق في العام 2003 ، فالمكان لا تدل عليه أية إشارة على الطريق كما أنه محمي عن الأنظار بأسوار مسيجة لا تنتهي. أما مركز قيادة قوات التحالف، التي كان يستضيف المؤتمرات الصحافية اليومية لشرح تقدم القوات، في العراق، فإنه موجود في قاعدة
-1 15  من القراصنة الجويين الذين نفذوا اعتداءات 11 أيلول عام 2001 كانوا يحملون الجنسية السعودية.__
أخرى تسمى السيلية، في منطقة صناعية قريبة من الدوحة. هناك أيضا، لا توجد مؤشرات تدل على الوجود الأميركي، إذ أن الجيش الأميركي يتعمد تحاشي الظهور. رغم ذلك، فإن قطر تقع في قلب الإستراتيجية الأميركية في المنطقة.
لم تكن العلاقات بين قطر والولايات المتحدة الأميركية جيدة باستمرار. في نهاية الثمانينات، كان المناخ بين العاصمتين سيئا، إذ أن واشنطن كانت تتهم الدوحة بشراء صواريخ ستينغر الأميركية الصنع في السوق السوداء. لا يحاول القطريون التخفي على ذلك وحجتهم أنهم كانوا يريدون إظهار غيظهم من قيام واشنطن بتسليم هذا النوع من السلاح الى البحرين، التي كان بينها وبين قطر نزاع حدودي. هذا الخلاف دفع بالكونغرس الأميركي الى فرض حظر بيع السلاح الى قطر، غير أن
هذا الحظر، من جهة، لا يضع حدا للسوق السوداء كما أنه من جهة أخرى، يخدم مصالح فرنسا.
حتى اليوم، فإن نسبة 80 بالمائة من الأسلحة والتجهيزات، الموجودة بحوزة الجيش القطري الصغير، فرنسي المصدر. يحلو للقادة القطريين، المتعلقين بالتقارب من فرنسا، التذكير أن الشيخ حمد اقترح على فرنسا أن تنقل قاعدتها الموجودة في جيبوتي الى الدوحة. في ذلك الوقت، لم يكن الأمير الحالي إلا وليا للعهد ووزيرا للدفاع.
كانت حرب الخليج الأولى عام 1991 مناسبة للتقريب بين الدوحة والأميركيين. لقد سمحت قطر لقوات التحالف بالقيام بمناورات على أراضيها، كما أعلنت في ما اعتبر وقتها بادرة حسن نية، تدمير صواريخ ستينغر التي بحوزتها، وتم رسميا رفع الحظر الأميركي المفروض على الأسلحة الى الدوحة، وفي العام الذي تلاه، وقع البلدان اتفاقية للتعاون العسكري، شكلت نقطة البداية لتعاون انطلق
قبل 18 عاما. في التسعينات، رصدت قطر مبلغا يزيد على مليار دولار لإنشاء قاعدة العديد الجوية.
فهمت هذه البادرة على أنها إشارة موجهة الى واشنطن من بلد لم يكن لديه حينها سلاح جوي.
مضمون الرسالة كان الإعلان عن الإستعداد لاستقبال سلاح الجو الأميركي.
في عام 2000 ، تم التوقيع على اتفاق يضع القاعدة بتصرف الأميركيين بصفة رسمية. في شهر أبريل من عام 2003 ، قامت واشنطن بنقل المقر الرئيسي للقيادة المركزية، CENTCOM ، الذي كان موجودا على الأراضي السعودية، الى قطر. لقد رأى وقتها وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد انه من المفيد أن يصرح بأن واشنطن تريد المحافظة على «علاقات سليمة » مع الرياض ،
-2 أوقف تيسير علوني في إسبانيا في سبتمبر من عام 2003 وأدين بالسجن لمدة سبع سنوات لتعاونه مع شبكة إرهابية. لقد قدمت المخابرات الأميركية، سي آي أي، معلومات للحكمة الإسبانية تؤكد أن علوني ينتمي الى «القاعدة ». وفي عام 2006 أطلق سراح علوني لآسباب صحية ووضع قيد الإقامة الجبرية.__
ومع ذلك، فإن الجنود الأميركيين العشرة آلاف، الذين كانوا يرابطون في السعودية، تم نقلهم سريعا الى قطر. بهذه المناسبة، طلب أمير قطر تخصيص مبلغ إضافي قيمته 400 مليون دولار لتجهيز القاعدة بأحدث الوسائل التكنولوجية، وفق ما ظهر في الفيلم الوثائقي بعنوان «غرفة المراقبة ،»
«كونترول روم ». اليوم أيضا، ينظم الأميركيون عملياتهم في العراق وأفغانستان ويديرونها انطلاقا من قاعدة العديد، بينما قاعدة السيلية الواقعة في ضاحية الدوحة تحولت الى اكبر مستودع للأسلحة والعتاد الأميركي في العالم، حيث تتجمع مئات دبابات أبرامز وغيرها من العربات الحربية.
من الغريب أن هذه الدولة الصغيرة التي استخدمت، في العديد من المرات، لإيواء الإرهابيين ولتمويلهم بمن فيهم إرهابيو «القاعدة »، تقوم بتكريس هذه الجهود وهذه المبالغ الضخمة من المال لدعم حروب الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان، والتي لا تحظى بدعم شعوب المنطقة، وليس سرا أن وزير الداخلية القطري الحالي، الشيخ عبدالله بن خالد آل ثاني، استضاف شخصيا، في الثمانينات، خالد
الشيخ محمد وعائلته وهو الذي يعتبر الدماغ المفكر لعمليات 11 ايلول 2001 . هذا الإرهابي، الذي يظن أنه كان على علاقة بالاعتداء عام 1993 على مبنى «وورلد ترايد سنتر »، استطاع أن يستفيد من وظيفة مريحة في وزارة الكهرباء والمياه في قطر. لم يترك هذا البلد إلا في شهر يناير من عام 1996 ،
وذلك في الوقت الملائم لتفادي توقيفه من قبل عملاء الشرطة الأميركية «أف بي أي .»
تشير تقارير رسمية عديدة الى أن أسامة بن لادن زار شخصيا الدوحة على الأقل مرتين، تلبية لدعوة من الشيخ عبدالله، وذلك قبل الهجوم على مبنى وورلد ترايد سنتر، وفي تقرير صادر عن الكونغرس الأميركي، يرد ان أبو مصعب الزرقاوي قد يكون مرّ بالدوحة واستفاد من دعم مالي من عائلة آل ثاني قبل أن يتوجه الى العراق حيث قاد عمليات «القاعدة » حتى شهر يونيو من عام 2006 ، تاريخ وقوعه ضحية لضربة جوية أميركية.
غير أن كل ذلك لم يمنع من أن تكون الدوحة هدفا لعملية قامت بها «القاعدة »، ففي عام 2005 ، وفي يوم الذكرى الثانية للغزو الأميركي للعراق، نفذ مواطن مصري يقود سيارة مفخخة، عملية انتحارية استهدفت مسرح العاصمة، الذي يرتاده، بشكل اساسي، غربيون، مما أدى الى مقتل مواطن بريطاني واحد وجرح 12 شخصا آخرين.
غير أن الشوكة الأساسية في العلاقات القطرية – الأميركية تبقى بلا شك قناة «الجزيرة ». عند الغزو الأميركي لأفغانستان، كانت «الجزيرة » إحدى القنوات النادرة التي كان لديها مراسلون في هذا البلد. بين هؤلاء، صحافي سوري هو تيسير علوني. لم يتردد علوني في إظهار الأضرار «الجانبية » لعمليات القصف الأميركية، وكانت ريبورتاجاته تثير حفيظة إدارة الرئيس جورج بوش، الذي أمر
ببساطة بقصف مكتب الجزيرة في كابول بحجة أنه يأوي عناصر من «القاعدة ». في العراق أيضا، في عام 2003 ، كان علوني نفسه هو من يغطي الأحداث ويقدم رؤية مختلفة عن تلك التي يقدمها الصحافيون الذين يرافقون جيوش التحالف .
مرة اخرى تعرضت مكاتب «الجزيرة » للقصف، لكن هذه المرة قتل أحد المراسلين. غير ان ريبورتاجات «الجزيرة » ما زالت تغيظ الأميركيين وتثير حنق مسؤولي الإدارة في واشنطن. في خطاب الإتحاد عام 2004 ، ندد جورج بوش ب »الدعاية الحاقدة الآتية من العالم العربي »، وعندما نقلت «الجزيرة » أن قوات
المارينز الأميركية قتلت الكثير من المدنيين خلال تطهير مدينة الفلوجة، فإن الرئيس الأميركي استشاط غضبا، قال زير الدفاع دونالد رامسفيلد إن ما تقوم به الجزيرة «شيء معيب وغير صحيح ولا يمكن التسامح بشأنه .»
في هذا الإطار، وضعت خطة لقصف مقر «الجزيرة » في الدوحة على طاولة النقاش، وبحسب التقارير التي تسربت لاحقا، فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير هو من ردع الرئيس بوش عن تنفيذ هذا المخطط.
الفصل الثامن
مفارقة «الجزيرة »
خلال أقل من 15 عاما، فرضت «الجزيرة » نفسها باعتبارها قناة مرجعية في كل العالم العربي، تساهم بقوة في تكوين الرأي العام، إذ ان هناك خمسين مليون مشاهد ناطق بالعربية يتابعون برامج «الجزيرة »، بحيث لا يمكن لأية قناة أخرى في المنطقة أن تدعي أنها بنفس القوة الضاربة المتوافرة ل «الجزيرة »، لكن رغم ذلك، فإن «الجزيرة » لم تتوصل بعد الى مرحلة اكتفاء مالي، خصوصا بسبب الضغوط التي تمارسها السلطات السعودية ودول أخرى في المنطقة على الشركات، التي قد ترغب ببث إعلاناتها عبر «الجزيرة .»
تشكل «الجزيرة »، بالنسبة للشارع العربي، فسحة من الحرية. أما بالنسبة للأنظمة الأوتوقراطية في المنطقة، فإنها بمثابة تهديد، ذلك انه لمرات عدة، عمدت حكومات عربية الى تقديم احتجاجات للسلطات القطرية بعد بث برامج تعطي الكلام للمعارضة. فالسعودية وإيران لم ترخص أبدا ل«الجزيرة » لكي تفتح مكاتب في عواصمها، أما دول أخرى مثل مصر والأردن والكويت وليبيا وتونس
والجزائر والمغرب، فإنها تمنع مراسليها من العمل بشكل منتظم. خلال زيارة قام بها الرئيس المصري لمكاتب «الجزيرة » في عام 2001 ، قال: «إن علبة الكبريت هذه هي التي تقوم بإحداث كل هذا الزعيق .»
لقد أدرك الشيخ حمد، بمناسبة الإنقلاب العسكري الذي حمله الى السلطة، أهمية الإعلام. فيوم الثلاثاء في 27 يونيو عام 1995 ، قطع التلفزيون الوطني القطري برامجه ليبث بلاغا جاء فيه أن ولي العهد قد أزاح والده من السلطة بسبب ممارساته التي تقود البلاد الى الإفلاس وبسبب السطو على عائدات النفط والغاز للإثراء الشخصي، ذلك أن 20 بالمئة من تلك العائدات كانت تصل الى خزينة الدولة، فيما المبالغ المتبقية كانت تحول الى حسابات في سويسرا. مباشرة بعد هذا الإعلان،
بث التلفزيون تقريرا يظهر مجمل القادة القبليون وأفراد الأسرة الحاكمة وهم يقدمون الولاء للأمير الجديد.
لقد ساهمت هذه الصور في التأثير على الرأي العام القطري لصالح الأمير الجديد، كما دفعت الحكومات الأجنبية الى الوقوف الى جانب رجل البلاد القوي، ومباشرة عقب ذلك، قام الدبلوماسيون المعتمدون في الدوحة بإعلام سلطات بلادهم أن المسألة تبدو منتهية وأنه من المفيد إرسال برقيات تهنئة للأمير الشاب وأنه من الأفضل الإسراع في ذلك لأنه سيتذكر من بادر أولاً الى دعمه، وقد وصلت أول برقية تهنئة رسمية من الولايات المتحدة الأميركية.
شكل التقرير الذي بثه التلفزيون «ضربة معلم »، ويقال إن الفكرة جاءت من الشيخة موزة. الحقيقة ان مشهد تقديم الولاء لم يحصل أبدا. إن ما حصل في الواقع هو أن ولي العهد استدعى في الليلة السابقة كبار أعيان البلاد لينقل إليهم أخبار والده الأمير، الذي كان موجودا في سويسرا والذي تحادث معه بالهاتف. بطبيعة الحال، تم تصوير الجلسة، غير أن الريبورتاج تم بثه في إطار آخر ومن غير صوت،
ولم تقم أي من الشخصيات الموجودة بتقديم الاحتجاج على ما حصل أو بالتنديد بهذه الألاعيب.
بعد ذلك بعدة شهور، كلف الأمير فريقا صغيرا دراسة إمكانية تنفيذ مشروع طموح هو كناية عن إيجاد قناة تلفزيونية تبث عبر الأقمار الصناعية وتكون وظيفتها تلميع صورة قطر في كل العالم العربي، وسريعا، نجح مفهوم وجود قناة إخبارية تبث 24 ساعة في اليوم، في فرض نفسه، وفي الأول من نوفمبر عام 1996 ، انطلق البث من هذه القناة التي يعني اسمها «الجزيرة .»
من سخرية القدر أن «الجزيرة » انطلقت في الوقت الذي تخلى فيه السعوديون عن إطلاق قناة لهيئة ال بي بي سي، تبث باللغة العربية. استفادت الجزيرة من هذا المعطى لاجتذاب الموظفين، الذين كانوا سيعملون في المشروع الآخر. بذلك، توافر لها أفضل الصحافيين من الجنسين، الذين جاؤوا من كل بلدان العالم العربي وكانوا تخرجوا وتأهلوا في أفضل المدارس المهنية. لقد شكلوا جيشا من ممتهني الصورة والصوت، كما ان الأمير استوعب أهمية هذه القوة الضاربة.
بعد عشرة أعوام، في عام 2006 ، تم إطلاق قناة «الجزيرة » الناطقة بالإنكليزية، التي تلتقط برامجها اليوم في أكثر من مئة بلد، غير أنها، مع ذلك، ما زالت غائبة عن الشاشات الأميركية، وجل ما تتمتع به «الجزيرة » الناطقة بالإنكليزية في الولايات المتحدة، هي أنها موجودة ضمن ثلاثة باقات تلفزيونية في ثلاث ولايات: أوهايو، فيرمونت وواشنطن دي سي، عبر ثلاثة مراكز تشغيل أو بث متواضعة. من أجل تشجيع المشاهدين الأميركيين على الضغط على مراكز تشغيل أو بث لعرض قناة «الجزيرة » عليهم، فقد أنشأت الأخيرة موقعا على شبكة الانترنت تحت اسم: «اريد الجزيرة ». بالإضافة الى النصائح العملية التي يقدمها الموقع، فإنه يقترح، بشكل سؤال وجواب، تصحيح عدد من نقاط «سوء الفهم والأساطير حول تاريخ الجزيرة وسياستها التحريرية ». هكذا، فإن «الجزيرة » تذكر بأنها لم تبث أبدا صورا لعمليات قطع الرؤوس، وهذه القناة التي تعاني من سمعة سيئة في الغرب، متهمة بأنها تدعم الإرهاب وبكونها معادية للسامية. الكثير من هذه التهم من محض التخيل.
لكن كيف الرد على بث تسجيلات أسامة بن لادن؟ الواقع أنه ليست هناك قناة واحدة في العالم كانت سترفض بث هذه التسجيلات، والجدير بالإشارة أن كبرى شبكات التلفزة الأميركية أخذت الصور التي كانت تبثها «الجزيرة ». وماذا عن التغطية المنحازة للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي؟
من الصحيح أن قناة «الجزيرة » تصف ضحايا القصف الإسرائيلي ب «الشهداء »، وصحيح أيضا أن شخصية بعض المسؤولين قي «الجزرة » مثل مديرها العام، وضاح خنفر، تثير التساؤلات، إذ أنه كان الناطق باسم الإخوان المسلمين في الأردن وقريب من حركة حماس، إلا انه يتوجب علينا أن نعترف، بالمقابل، أن «الجزيرة » أعطت دائما الكلام للقادة الإسرائيليين، وبحسب كاترين كانو، مديرة التحرير في إذاعة راديو كندا سابقا والتي وظفت في عام 2009 ، فإن لائحة الشخصيات الإسرائيلية التي تحدثت عبر «الجزيرة » طويلة: «شمعون بيريس، الذي زار مكاتبها في الدوحة، وتسيبي ليفني ومارك ريغيف وأفيتال ليبوفيتش وداني جيلرمان وبنيامين نتنياهو ». تضيف كانو أن مكتب «الجزيرة » في القدس هو «من أهم مكاتب التلفزيون، حيث يعمل فيه مراسلان دائمان، وخلال حرب غزة، كنا الوحيدين الذين قدمنا تقارير من جانبي النزاع، فضلا عن أن جيروزاليم بوست وهآرتز كالتا المديح » لما كانت تقوم به «الجزيرة ». تشير كانو الى مقال كتبه جدعون ليفي تحت عنوان «بطلي في حرب غزة ». هذا البطل هو صحافي «الجزيرة » في غزة، أيمن محيي الدين. وتذكر الصحافية، كذلك، أن قناة «الجزيرة »، الناطقة باللغة العربية، موزعة في إسرائيل، كما أن بعض الموزعين عمد الى الإستعاضة عن قناة «بي بي سي ورلد » بقناة «الجزيرة »، الناطقة باللغة الإنكليزية عام 2007 .
يبقى موضوع التقارير التي تنتقد بشكل مباشر التدخل الأميركي في العراق وأفغانستان. من محاسنها أنها تقدم رؤية تختلف عن التغطية، التي يقوم بها الصحافيون الذين يرافقون وحدات الجيش لأميركي. هل كنا لنسمع، لولا «الجزيرة »، بالمجزرة التي ذهب ضحيتها عدة مئات من المدنيين في مدينة الفلوجة، التي قصفتها القوات الحليفة في شهر نوفمبر عام 2004 ؟
بعض الدول العربية، ومنها سوريا، تتهم «الجزيرة » بكونها أداة بيد الصهيونية والأمبريالية الأميركية، أما السعودية ومصر فتأخذ عليها أنها أداة بيد أمير قطر، فيما الولايات المتحدة ترى أنها تجيش المشاعر المعادية داخل الرأي العام العربي. هذا الكم من المآخذ يؤكد، بأي حال، أن القناة القطرية أحدثت ثورة في المشهد الإعلامي.

تقدم «الجزيرة » نظرة مختلفة عن العالم. هي القناة الإخبارية الحقيقية الوحيدة الموجودة في بلدان الجنوب، وهي الوحيدة القادرة على تغطية مناطق أو مواضيع تهملها القنوات الأخرى أو التي لا تمتلك الوسائل للقيام بذلك، وهي تعطي الكلام لمواطني العالم، الذين لم يحصلوا أبدا على هذا الحق، فالجزيرة كانت الوحيدة الموجودة في سريلانكا أثناء معارك عام 2009 ، وهي وحدها التي فتحت مكتبا في هراري، عاصمة زيمبابوي، وعندما أطلقت إسرائيل حملتها العسكرية على غزة، كانت مايكروفونات «الجزيرة » موجودة هناك، وبفضل مراسليها اللذين كانا هناك، أبرزت «الجزيرة » هيمنتها على المسرح الإعلامي العربي، لا بل العالمي. بسبب التعتيم الذي فرضه الجيش الإسرائيلي، فإن شبكات مثل «سي أن أن » أو «بي بي سي »، كانت تراقب ما يحصل في غزة عن بعد، انطلاقا من تلة تشرف على القطاع، وكان المبعوثون الخاصون يروون الحرب التي تتم عن بعد بشكل مثير للشفقة.
خلال سنوات طويلة، كان المد الإعلامي يأتي من الشمال ويتجه الى الجنوب، من البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة، وكانت المجموعات الغربية تفرض أجندتها الإعلامية على بقية العالم، أي حيث توجد اكثرية سكان العالم، التي كان عليها قبول ما يقدم لها. كانت شعوب أميركا الجنوبية والشرق الأوسط وأفريقيا محكومة بأن تستمع الى أخبارها عبر عيون المنتجين ومقدمي البرامج الموجودين في أتلانتا أو لندن. وجود «الجزيرة » غير هذا المعطى.
يترأس الشيخ حمد بن تامر آل ثاني قناة «الجزيرة » منذ انطلاقتها. رغم أنه يحلو له أن يذكر بأنه يحمل إجازة في الصحافة من جامعة قطر، إلا أنه بدأ حياته العملية في وزارة الإعلام، حيث كشف عن رؤية ضيقة لحرية الصحافة. بداية، كان مسؤولا عن مراقبة المنشورات المطبوعة، وبعد ذلك تحول الى مراقبة المراسلين الأجانب في قطر، قبل ان يعين نائبا لوزير الإعلام. في عام 1996 ، ألغيت وزارة
الإعلام، فيما عين الشيخ حمد رئيسا لمجلس إدارة القناة الفضائية. ثمة مفارقة ما في أن يعهد بإدارة القناة الفضائية، التي تطمح لمنافسة شبكات تلفزيزنية مثل أل «سي أن أن » أو أل «بي بي سي ،» للشخص الذي كان دوره ولسنوات تطبيق الرقابة الرسمية في الإمارة.
الواقع أن الشيخ تامر هو، قبل كل شيء، رجل سلطة. هو قريب من الأمير وابن عمه، كما أنه أحد أعضاء ما يسمى «الدائرة الأولى » التي تضم على الأكثر، عشرين شخصا، يرتادون يوميا الديوان الأميري. فضلا عن ذلك، فإن الشيخ حمد بن تامر يرافق غالبا الأمير في رحلاته الرسمية الى الخارج.
ومن مكتبه في مبنى «الجزيرة »، ما زال مستمرا في مراقبة مجمل الوسائل الإعلامية في قطر، بحيث يتصل بمسؤولي الصحف لينقل اليهم تعليمات الأمير أو لينصحهم، أخويا، بالامتناع عن نشر بعض الأخبار.
بطبيعة الحال، نحن كنا نجهل كل ذلك، لكن عندما اتصل بي مستشارو الشيخة موزة لينصحوني بأن تعهد اليه رئاسة مجلس إدارة المركز، سقطت في الفخ، وما سهل ذلك أن دور الشيخ حمد بن ثامر كان ينحصر في توقيع المستندات الرسمية، وعندما التقيته للمرة الأولى، خدعت بمظهره العادي غير العدائي، إذ أنه بدا لي أنه يفتقر للكاريزما، فالكلام الذي قاله لم يتضمن شيئا جديدا، أما موضوع حرية الإعلام فقد بدا أنه يصيبه بالسأم العميق إذ أنه أمضى غالبية وقت اللقاء وهو يلعب بهاتفه الجوال. لقد ارتكبت غلطة كبيرة بشأنه إذ إنني لم أقدر خطورة هذا الخصم.
الفصل التاسع
صحافة ممسوكة
لو لم تكن «الجزيرة » موجودة، لكانت الصحافة في قطر تشبه الصحافة الموجودة في بقية بلدان المنطقة، ذلك ان الصحف السبع الموجودة، المنشورة في قطر باللغتين العربية والإنكليزية، تمارس الرقابة الذاتية. هذا أمر طبيعي حيث ان 95 بالمئة من العاملين في هذه الصحف هم من الأجانب، الذين يرتبط بقاؤهم في الإمارة باحترام الخطوط الحمراء، التي تفرضها السلطة في ما خص السياسة التحريرية، حيث ان كل تحليل نقدي لقرارات الحكومة يستبعد بعناية، كما أن معالجة مواضيع تتناول
إقامة وعمل اليد العاملة الأجنبية تطرح إشكاليات، لذا، يتعين على الصحافيين معالجتها بكثير من الحذر لتلافي التسريح أو حتى الطرد من قطر. حتى عام 2009 ، كان أرباب الصحف يصادرون جوازات السفر للعاملين الأجانب طيلة مدة عملهم في قطر. لقد تم وضع حد لهذه الممارسات منذ أن نشر مرسوم أميري في عام 2009 ، إلا أن الصحافيين ما زالوا تحت رحمة أصحاب الصحف، وما يزيد من
هشاشة وضعهم، هو غياب وجود لنقابة أو جمعية في قطر تتولى الدفاع عن مصالح الصحافيين.
يواجه الصحافيون، المولجون متابعة المسائل الإقتصادية، عوائق يصعب التغلب عليها، إذ يبدو من المستحيل بالنسبة اليهم أن يتحققوا من الأرقام التي تنشرها الشركات المحلية، لذا فإنهم يميلون الى فرض رقابة ذاتية على ما ينشرون مخافة أن يتهموا ب «الإساءة الى صورة قطر، التي تريد أن تكون أكثر جاذبية بالنسبة للمستثمرين الأجانب »، لذا يكتفون غالبا باستخدام البيانات المنشورة التي تصلهم كما هي.
حتى عام 1995 ، كان موظفون من وزارة الإعلام يرابطون داخل كل هيئات التحرير، وكانت وظيفتهم فرض الرقابة على كل المقالات، التي تعتبر منافية لمصالح الإمارة. لقد قرر الشيخ حمد، لدى وصوله الى السلطة، إلغاء وزارة الإعلام ووضع حد للرقابة على المطبوعات، لكن رغم أهمية هذا العمل
الرمزي، إلا أن التغير الحقيقي كان ضعيفا للغاية، إذ أن الرقابة لم تعد قائمة لأنه لم تعد هناك حاجة لها، ذلك أن أرباب الصحف المتعلقين بالمحافظة على امتيازاتهم، لن يغامروا بإغضاب الأمير أو المقربين منه، لذا فإن الصحافيين أنفسهم تخلوا عن البحث عن الحقيقة، مفضلين المحافظة على المنافع المتأتية عن اتقان استخدام اللغة الخشبية. يبدو من الصعب إلقاء اللوم عليهم فغالبية العاملين في قطر هم من الأجانب الذين وجدوا هناك فرص عمل ومرتبات غير متوافرة في بلادهم، ولدى أول خطوة ناقصة، فإن هؤلاء معرضون للتسريح، ولقد خبرت الصحافية «راشيل موريس ،» التي جاءت الى قطر من نيوزيلاندا، هذا الوضع، إذ أنها عينت في عام 2008 لتشرف على هيئة تحرير صحيفة «بيننسولا »، غير أنها سرحت بعد ذلك بشهور قليلة، ومع ذلك، فقد فضلت البقاء في__ قطر وتحولت الى العمل في حقل العلاقات العامة. أما «اشوين » وهو من غوا في الهند، فقد عمل طيلة 15 عاما للصحافة الناطقة بالإنكليزية في الدوحة، وعندما التحق بفريقنا حيث كلف بالقيام بتحقيقات وكتابة مقالات بغرض نشرها على موقعنا على الانترنت، أعرب عن سعادته لأنه عاد الى العمل الصحافي الحقيقي، ولدى سؤاله عن الأسباب التي جعلته يتخلى عن طموحاته المهنية وعن قناعاته، أجاب بأنه متزوج وله ولدان يتحمل مسؤوليتهما، لذا فقد قبل طيلة سنوات أن يكتب مقالات تلبية لطلبات تلقاها أو أن تعمد الإدارة الى قص مقالاته وحذف مقاطع منها، أو أن ترمي بها في القمامة، فضلا عن القبول بتلافي التطرق الى عدد من الممنوعات.
يعود قانون المنشورات في قطر لعام 1979 ، وهو ما زال معمول به، رغم أنه لا يشير الى القنوات التلفزيونية الفضائية أو الى مواقع الانترنت. يكثر القانون من سرد الممنوعات التي يشار اليها بكلام عام، مما يسهل تفسيرها بكل اتجاه، الأمر الذي من شأنه انه يعطي السلطات الحكومية صلاحيات واسعة للغاية، حيث يعود لمكتب رئيس الوزراء، في أي وقت كان، أن يوسع لائحة الممنوعات بقرار بسيط ينقل الى الوسائل الإعلامية. ينص القانون على أن كل مخالفة يمكن أن تقود الى منع الوسيلة الإعلامية وأن لا سبيل لمراجعة القضاء. يضاف الى ذلك ان غياب أي جسم قضائي متخصص في موضوع الصحافة ومطلع على سبل عمل الوسائل الإعلامية يجعل حرية الإعلام أكثر هشاشة، وتطبق على الصحافيين عقوبة السجن بسبب مخالفات غير محددة بشكل دقيق. في هذا السياق ايضا، فإنه من المؤسف ألا توجد في قطر نقابة أو جمعية تحمي الصحافيين، وبسبب هذا الوضع، تبرز الصعوبة في تحديد أعداد الصحافيين الذين كانوا ضحايا تسريح غير مبرر.
كانت علاقاتنا مع الصحافة في قطر تتميز بداية بالريبة، ذلك أن إنشاء المركز تم تصويره على أنه مبادرة من الشيخة موزة وبالتالي لم يكن أحد يغامر، في العلن على الأقل، في انتقاد قرار صادر عن زوجة الأمير القوية، غير أنه في حميمية الدواوين وخلال بعض مآدب العشاء في المدينة، عبّر بعض أرباب الصحف عن عدم فهمهم لهذه المبادرة. يتمحور التساؤل حول: لماذا وقع الاختيار على روبير
مينار، هذا الغربي المعروف بحرية كلمته والممنوع من الإقامة في عدة بلدان عربية؟
لقد وصلت الى الدوحة مسبوقا بسمعة لا تشي صراحة بأنني دبلوماسي لبق، بينما البعض في باريس يتشدق ويدعي أنني بعت نفسي لقطر مقابل مرتب عال. وكما في كل مكان، ألام لأنني لم اعرف كيف أدبر الأمور ولأنني أطلب المستحيل وخصوصا لأنني لا أتوقف كثيرا عند ما يسمى الفروقات الثقافية.__
لقد صدر أول بيان عن المركز في 8 نوفمبر، بمناسبة اليوم الوطني لحقوق الإنسان. يؤكد البيان على سعينا لتطوير حرية الصحافة في الإمارة، وكنا نرى أن مناسبة الذكرى يمكن أن تكون مفيدة شرط أن تكون مناسبة لتوصيف دقيق للوضع ومناسبة لتحريك بعض الخطوط. تضمن البيان بعض الأفكار التي كنا ناقشناها مع الشيخة موزة، والتي شجعتها بنفسها، وطالبنا، بشكل رئيسي، بأن تصدق قطر على الوثيقة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، خصوصا ان الدوحة كانت ستستقبل، في الثالث من مايو 2009 ، اللقاء التاسع عشر لليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي تنظمه اليونسكو للمرة الأولى في بلد عربي، لذا رأينا أنه حان الوقت لقطر لكي تعترف بقيمة وجدوى هذا النص المؤسس لحرية الإعلام.
ركزنا ايضا، في بياننا، على ضرورة تغيير قانون الصحافة، المهترئ والخطير في آن، وقمنا بدعوة جميع الصحافيين الى المشاركة في النقاش حول القانون الجديد.
عقب ذلك، طلب من العديد من الصحافيين إما إجراء مقابلات أم مزيدا من المعلومات، غير أنه في اليوم التالي لم نجد، في أي من الصحف القطرية، أثرا للدعوة، فالشيخ حمد بن تامر، رئيس مجلس إدارتنا ترك بصماته على الوضع لأنه اتصل بمدراء الصحف طالبا منهم ألا ينشروا مواضيع خاصة ببياننا، وبذلك يكون قد وصلنا تحذير يتناول أولا نوايا الشيخ حمد بن تامر إزاءنا، وحول اليد الحديدية التي يمسك بها أرباب الصحف بعد سنوات من إلغاء الرقابة.
مع مرور الأسابيع وبفضل الشروحات التي قدمناها والتأكيدات التي تدل على حسن إرادتنا، توصلنا الى كسب ثقة بعض وسائل الإعلام القطرية. قلنا إننا لسنا في الدوحة من أجل إطلاق الثورة بل لاقتراح تعديلات يمكن أن يستفيد منها الجميع، الصحافيون كما قادة البلاد. وزوجة الأمير نفسها مقتنعة بهذا الطرح.
عندما نظمنا في شهر فبراير من عام 2009 مؤتمرا صحافيا في أحد فنادق الدوحة لعرض تقرير مطول عن حالة الصحافة في الشرق الأوسط والمغرب العربي، حضرت كل صحف البلاد من غير استثناء.
لدى تقديم مداخلتي، حرصت منذ البداية على عرض نوايانا وهي التنديد بانتهاكات حرية الإعلام في أي مكان من العالم. صحيح أن العالم العربي، وقطر بشكل خاص، يحتاجان لتحقيق تقدم على هذا السبيل، لكن بالمقابل ليس هناك من هو فوق الإنتقاد. استشهدت بحالة سامي الحاج، الجالس في
الصف الأول والمصور في قناة «الجزيرة »، الذي أمضى ستة أعوام في سجن غوانتانامو الأميركي، لأقول إنه يعرف أكثر من أي شخص آخر ثمن الحرية. أما عندما وصلت الى عرض حالة حرية الصحافة في قطر، فقد ساد صمت القبور. مرة جديدة أشرت الى الحاجة لتغيير قانون الصحافة والتصديق على
الوثيقة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، وطرحت فكرة إنشاء جمعية للصحافيين في قطر، كما عمدت الى تحية شجاعة الشيخة موزة، التي أتاحت لمركزنا أن يرى النور، لأضيف بعدها أن منظمتنا ستفتقر لأية صدقية إذا ما غضت النظر عن التأخر اللاحق بقطر في موضوع حرية الصحافة، وقلت: «لا يمكن أن نكتفي بالتنديد بما يحصل عند الآخرين وأن نصمت عما يجري هنا ،»
وقد لاحظ فريق المركز أن الصالة صامتة وخشي من أن تفرغ، لكن المفاجأة أننا رأينا بعض الأيدي ترتفع لطرح أسئلة. بعضهم طلب الكلام لتقديم اقتراح أو لتقديم شهادة حول تجربته الشخصية في ممارسة الرقابة الذاتية. دام التبادل مع القاعة حوالي الساعة وكانت المرة الأولى في قطر، التي يناقش الصحافيون فيها شجون مهنتهم وصعوباتها.
في اليوم التالي، نشر تقرير المركز على صدر صفحات عدة صحف. صحيفتا بيننسولا وغولف تايمز، اللتان تصدران بالإنكليزية، سردتا الكثير مما جاء في التقرير عن قطر. أما صحيفة العرب فقد نشرت على صفحة مزدوجة خلاصات تقريرنا وكرست المساحة نفسها لكل البلدان المعنية، فيما الراية والشرق والوطن شددت على الانتقادات، التي سقناها بحق مصر والسعودية. لكننا اعتبرنا أننا، بشكل عام، كسبنا الرهان.
لم يدم شهر العسل بيننا وبين الصحافة القطرية إلا وقتا قصيرا، ذلك أن المواقف التي عبرنا عنها وحرية الكلام التي استخدمناها وخصوصا النزاعات، التي كانت تدور فوق رؤوسنا، أفضت كلها الى تغير في اللهجة إزاءنا. لقد طلب بعض مدراء الصحف من الصحافيين التوقف عن تغطية نشاطاتنا، بينما أطلق آخرون حملة تنديد بنا، اتسمت بعنف لا يضاهى تجاهنا. لقد دفعت صحافية، سيريلانكية الأصل، عملت الى جانبنا في التحقيق عن اغتيال مواطنها لازنتا ويكروماتونغا في كولومبو، في 8 يناير عام 2009 ، ثمن تعاونها معنا، إذ أنها سرحت من غير سبب أو شرح أو تعويض أو إنذار. صحيفة بيننسولا، التي كانت تعمل لها، «نسيت » أن توقع عقد العمل معها فكانت تتلقى مرتبها نقدا. كانت معدومة السبيل للتعبير عن احتجاجها. عند تسريحها، أعطتها السلطات ثلاثة أسابيع لمغادرة البلاد.
الفصل العاشر
قطر: بلد الصور المركبة
الإنطباع الأول، الذي يتكون للزائر عند وصوله الى الدوحة، هو أنه موجود بمواجهة حقل بناء لا ينتهي. أشغال البناء لم ينج منها حي واحد. يتعين على المرء التحلي بخيال واسع ليستطيع أن يتصور صورة الدوحة عندما تنتهي كل آلات خلط الإسمنت من أعمالها. كذلك يتعين توافر خيال اكثر جموحا لتصور كيف كانت المدينة قبل عشر سنوات.
من حيث المبدأ، يفترض أن تنتهي كل أعمال البناء بحلول عام 2012 . لكن ثمة أسباب تدعو للشك.
عندما يهبط الليل، يبدو الكورنيش وهو نزهة بحرية بطول 7 كيلومترات، يلامسه طريق من ستة خطوط للسيارت، وكأنه يريد منافسة حي سكايلاين في مانهاتن، ذلك أن الأبراج تشع وأنوارها تنعكس على مياه الخليج الداكنة، لكن عندما تشرق الشمس، يضمحل السراب ويظهر أن أيا من الأبنية لم ينته العمل فيها. غير أن الإضاءة هي أول ما يتم التفكير به وبتركيبه. بعض ناطحات السحاب ما زالت عظاما عارية من الإسمنت المسلح. رغم ذلك، هناك حرص على إضاءتها طيلة
الليل من أجل خداع الناظر. الأشغال تبدو وكأن لا نهاية لها، وعندما استقرينا في الدوحة في عام 2008 ، كانت بعض الأبنية تعطي انطباعا بأن الأشغال فيها على وشك الإنتهاء. فعلى الواجهة الشمالية لمبنى «نافيغاشون تاور »، كان كل ما تبقى إنجازه وضع ألواح زجاجية في الطبقات العليا من المبنى. لكن بعد مرور عام، بقي الثقب الكبير فاغرا فاه، بينما في الجهة المعاكسة، تظهر تسربات داكنة اللون، قد يكون مصدرها أجهزة التكييف أو أجهزة أخرى لا تعمل بشكل سليم. ولكن لا
أهمية لذلك كله طالما أن هذا المبنى يلاليء ليلا بكل انواره.
ليس المال هو العنصر المفقود من أجل إنجاز مشاريع البناء التي لا تزال قيد الإنشاء والبالغ عددها 191 مشروعا، بقيمة إجمالية تصل الى ثمانين مليار دولار، ذلك أن أكبر جهة تبني هي مؤسسة ديار قطر، التي تتبع كلية الصندوق السيادي، هيئة الإستثمار القطرية. لكن ما هي وجهة استعمال مئات الآلاف من الأمتار المربعة، علما أن 60 بالمئة من المساحات المتوفرة والمنجزة اليوم غير مستعملة؟
ثمة طوابق كاملة في برجي الفردان، التي يصل ارتفاعها الى 177 مترا، ما زالت غير مشغولة علما أنها أنجزت في عام 2006 . وحتى الآن، لم تجد من يستأجرها. لا شك أن العرض كبير ويفوق الطلب، فيما تبقى قيمة الإيجارت خيالية وهي لا تعكس حقيقة السوق، والمدهش أن قانون العرض والطلب
في الدوحة يسير أحيانا على رأسه. الجدير بالذكر أنه في عام 2009 ، وقّع الأمير مرسوما فرض فيه خفضا للإيجارات، التي ينتهي أجلها، بنسبة 25 بالمئة.

في قطر، هناك أبراج تسكنها الأشباح ومشاريع نكست اعلامها ونموذج اقتصادي عجيب، بينما القطاع العقاري يخضع لقانون أوحد. الشيخ حمد آتاه حلم فاندفع آلاف العمال لتحويل هذا الحلم الى واقع وإخراجه من التراب، لذا فإن قطر تستهلك يوميا 15 ألف طن من الإسمنت.
أحد أهم المشاريع الخيالية، مشروع بناء «كونفنشن سنتر تاور »، الذي يفترض أن يبلغ ارتفاعه 550 مترا، بحيث يكون من بين أعلى عشرة ناطحات سحاب في العالم. كان يفترض أن ينجز المشروع في عام 2012 ، لكن حتى الآن، تم وضع الأساسات، وسط قطعة أرض واسعة يستخدمها زوار أحد المجمعات التجارية موقفا لسياراتهم، غير أن يافطة عملاقة تبرز المشروع بطوابقه ال 105 ، وعلى كل
الألواح التي تحيط بالمكان، هناك رسوم موضوعة، الغرض منها أن تشد انتباه الناظر الى امور اخرى لينسى جبال الحصى والرافعات العملاقة وضجيج الآليات، الذي لا ينقطع، فضلا عن غياب الأرصفة وبالطبع الخضرة.
الواقع أن قطر تتشكل من صور مركبة وهي فردوس مكاتب الهندسة المعمارية، التي تتدافع للوصول اليها، مثل الهولندي ريم كولاس، المكلف رسم مقر مؤسسة قطر الجديد، أو الياباني أراتا إيزوزاكي، المكلف تصوير مشروع مركز المحاضرات، الذي سيقام على مدخل المدينة وعلى قطعة أرض تبلغ
مساحتها 77 ألف متر مربع. وهناك ايضا الفرنسي جان نوفيل، الذي رسم برجا من 45 طابقا كان يفترض أن يغطى بطبقة من الدانتيل الزجاجي. هذا المبنى كان يفترض أن ينتهي العمل فيه في عام 2008 ولكنه حتى الأن لم يتم.
الأمكنة الوحيدة في الدوحة، التي يستطيع المرء فيها أن يسير عدة أمتار على الأقدام، دون أن تصدمه سيارة رباعية الدفع، أو أن يركب المخاطر بتسلق جبال من الردميات، هي الكورنيش البحري والمراكز التجارية وسوق واقف. فالمجمعات التجارية تشكل الوجهة الأولى لتنزه القطريين، وثمة مشروع جديد
لبناء مجمع تجاري طوله 8 كلم شمالي الدوحة، وهو رقم قياسي جديد يضاف الى إنجازات قطر.
بانتظار هذا المارد الجديد، فإن القطريين يفضلون مجمع «فيلاجيو »، القائم قريبا من المجمع الرياضي وبرج «أسبير »، الذي بني بمناسبة الالعاب الآسيوية. ما يتميز به مجمع «فيلاجيو » أنه مجهز بميدان للتزحلق ما من شأنه أن ينسي القطريين حرارة الخارج، التي تزيد على 45 درجة. فضلا عن ذلك، فإن الديكور الداخلي يراد له أن يذكر بسحر البندقية. فتحت قبة سماء مفبركة، يسير آسيويون قواربهم في قنوات «تعطر » مياهها مادة الكلور ويتنقلون بهم بين المحلات الفاخرة التي تعرض أغلى السلع.
في هذا الإطار، ثمة حاجة لمخيلة قوية ولجهل كامل للبندقية حتى يشعر الزائر بالحبور، ولينسى هذا المشهد المبتذل.
سوق واقف المسمى أيضا السوق القديم هو من جهته جدير بأن ينضم الى مدن الملاهي. فإذا كان صحيحا أنه يقع في المكان نفسه الذي كان يقوم فيه السوق التاريخي، إلا أنه لم يبق شيء من تلك الفترة، فالمنازل ذات السطوح الطينية والتي تأوي حاليا المطاعم، التي تقدم النارجيلة أو تشغلها الدكاكين، التي تعرض بضائع للسياح، أو بعض الماركات الرائجة، كتلك العائدة لماركة أميركية معروفة للبوظة، كل هذه الأماكن أعيد بناؤها، بشكل كامل، وبطلب من الأمير. فالشوارع الضيقة
أعيد تبليطها وتمت دراسة إضاءتها بشكل يضفي على أرصفته المطاعم والمقاهي أجواء رومنسية، فيما خيالة الشرطة يتجولون فيها، فيما يتبعهم على بعد أمتار قليلة عمال نيباليون، وظيفتهم تجميع روث الخيول بشكل خفي.
على بعد عدة أمتار من هذا السوق القديم – الجديد، يقع متحف الفن الإسلامي الشهير، الذي شهد، يوم تدشينه في شهر نوفمبر عام 2008 ، حضور مجموعة من المشاهير، بينهم برناديت شيراك وجاك لانغ ودومينيك دو فيلبان وجيف كونز وداميان هيرست وروبير دونيرو وكيث ريتشاردز، فضلا عن الرئيس السوري بشار الأسد. كلهم جاؤوا لتحية الجهود، التي يقوم بها أمير قطر لتحويل الدوحة
الى «عاصمة الثقافة العالمية » وليس أقل من ذلك. لقد بني هذا المتحف على جزيرة اصطناعية تقوم على بعد ستين مترا من الكورنيش. هو مبنى أبيض
اللون، صممه المهندس المعماري الشهير ليو مينغ باي، الذي يمثل أسطورة حية. يبدو أنه استوحى شكله من سبيل للوضوء، قائم في مسجد أحمد ابن طولون في القاهرة. يقول باي، الثمانيني، عنه، إنه يمثل «جوهر الفن الإسلامي »، بينما تصفه الشيخة مياسة، ابنة الأمير والشيخة موزة، المسؤولة عن المتحف، بأنه «منارة قائمة في الخليج، تتلألأ أضواؤها الى جانب الأضواء الأخرى، الآتية عبر القارات
ومن عواصم المعرفة ». هذه المرأة الشابة، التي حصلت على شهاداتها من جامعة كولومبيا، في نيويورك، أقنعت الممثل الأميركي روبيرت دو نيرو بأن ينشىء في الدوحة مهرجانا شبيها بمهرجان «تريبكا فيلم فيستيفال »، المخصص للأفلام الطليعية. الأميرة الشابة تحلم، كما والدتها، بتوفير الحداثة والثقافة لبلدها كما أنها تثير غيظ المحافظين في الإمارة، الذين يعتبرون أن قطر قادرة بفضل  عائداتها اليومية، التي تقدر ب 300 مليون دولار، ترك المعرفة جانبا، غير أن الشيخة مياسة، على خلاف أمها، فإنها ترتدي العباءة السوداء الصارمة، التي تغطي الجسم من الرأس الى أخمص القدمين. لكن عندما تتجول في شوارع نيويورك، فإنه تشبه أية مواطنة أميركية من جيلها نفسه. أما في الدوحة، فإنها تفضل أن تتفادى إعطاء المحافظين حجة إضافية تدفعهم الى مزيد من التزمت، وهي تعتبر أن الثقافة يمكن أن تحقق تقدما أكبر تحت الحجاب.
يضم المتحف أكثر من 400 ألف قطعة أثرية معروضة في مستوياته الخمسة. خلال السنوات الأخيرة، قام أحد أبناء عم الأمير، بتكليف من الأخير، بشرائها عبر العالم. كانت المهمة، التي كلف بها، تقوم على توفير أجمل مجموعة في العالم مستندا الى ميزانية غير محدودة. يبدو أن القيمة الإجمالية للمشتريات، التي دفعتها وزارة المالية، تزيد على مليار ونصف مليار دولار. يقال إن الشيخ سعود لم
يتوان، خلال تنفيذ مهمته، عن تحقيق أرباح مهمة وهو يقيم في الوقت الحاضر في لندن، بانتظار أن يهدأ ويتلاشى غضب الأمير.
عند الخروج من المتحف، التفوا يسارا وامشوا بمحاذاة الكورنيش حتى الوصول الى كوخ قائم يلاصق المياه. اجلسوا على رصيفه المهتز وعلى كراسيه التعبة وانظروا الى طاولاته المغطاة بشراشف مشمعة وإلى إضاءته المتقادمة أو الى جهاز تكييفه التعب. لكن تمتعوا أيضا برائحة المشاوي الشهية التي تفوح منه.
رواد المطعم هم من الرجال رغم ان لا شيء يمنع النساء من الذهاب إليه. الرجال القطريون، بدشداشاتهم البيضاء، يأتون اليه ويختلطون بالعمال البسطاء، الوافدين الى قطر من كل أنحاء العالم العربي، فيلعبون الورق أو يشاهدون مباراة كرة القدم على جهاز التلفزيون، أو يشربون الليموناضه الممزوجة بالنعناع، أو يأكلون المشاوي أو يدخنون النارجيلة. عند رؤية هؤلاء، يطفو شعور بأن الأمل غير مفقود
من قطر، إذ لا تزال توجد في هذا البلد أماكن نادرة كهذا المكان تشبه الحياة فيها الحياة الحقيقية.
لكن الخوف هو ألا تشكل هذه الأماكن جزءا من أحلام الأمير.
الفصل الحادي عشر
أفضل أعدائنا
تتمثل إحدى مهمات المركز بتوفير الملجأ للصحافيين المعرضين للمخاطر، إلا أن قطر لا تمنح، رسميا، حق اللجوء، باستثناء ذلك الحق المعطى لمجموعة من الدكتاتوريين المبعدين، أو لعدد من قادة الإرهابيين الملاحقين. لذا، تم الإتفاق على ان استقبال الصحافيين في المركز سيكون مؤقتا، يتراوح ما بين ثلاثة أو ستة أشهر، بحيث نعطى الوقت لنجد لهم حلا دائما.
قامت مؤسسة قطر بوضع فيلتين بتصرفنا في حي سكني غرب المدينة: الأولى، موجودة في الرقم 7 وهي مخصصة للرجال، والثانية تحمل الرقم 11 وهي مخصصة للنساء، غير أن هذه الفيلا الأخيرة لم يشغلها أحد إطلاقا. أما الصحافيان اللذان نجحنا باستصدار تأشيرة إقامة مؤقتة لهما، فهما صحافيتان شابتان: الأولى من أفغانستان والثانية من الصومال.
كانت نيلوفار حبيبي تشغل وظيفة مذيعة في تلفزيون حيرات المحلي غربي افغانستان. لقد تعرضت هذه الصحافية مرتين للإعتداء لأنها أرادت أن تمارس مهنتها، ووجهت لها تهديدات. وصلت الى الدوحة في الثاني من يونيو عام 2008 . أما بيشارو محمد وايس فإنها كانت مقدمة برامج شهيرة، تعمل لصالح شبكة التلفزيون الخاصة، «إيسترن تيليفيجين نتوورك »، كما كانت آخر امرأة تمارس مهنة الصحافة في البونتلاند، المنطقة التي تتمتع بشبه استقلال في الصومال. في الرابع من مايو عام 2008 ، تعرضت هذه الصحافية لاعتداء قام به أربعة رجال أطلقوا النار عليها، بينما كانت تقود سيارتها، لكنها نجت من الإعتداء. في اليوم الثاني، تلقت تهديدات بالقتل إذا ما أصرت على الإستمرار في عملها، فلجأت بيشارو أولا الى جيبوتي ثم الى أثيوبيا قبل أن تصل الى قطر في 29
نوفمبر عام 2008 . خلال إقامتهما في الدوحة، شاركت نيلوفار وبيشارو في نشاطات المركز وتحديدا في تحضير تقارير عديدة حول بعثات المساعدة في أفغانستان والصومال. أما نحن، فقد قمنا بما يتوجب علينا لمساعدتهما على الإنتقال الى فرنسا والحصول على اللجوء السياسي. كلتاهما وصلتا الى باريس
بداية عام 2009 ، حيث استقبلتا في «بيت الصحافيين »، وهي إقامة أنشئت بمبادرة من المخرج فيليب سبينو والصحافية دانيال أوهايون. في باريس بدأت الصحافيتان حياة جديدة دون أن تفقدا الأمل بالعودة يوما الى بلديهما.
عندما قمنا باستقبال نيلوفار وبيشارو في الدوحة، ربما نجحنا في إنقاذ حياة صحافيتين. لكن هناك العشرات من الصحافيين المهددين بالموت في أفغانستان والصومال وباكستان وغيرها من البلدان، لكننا، للأسف، كنا عاجزين عن تقديم الملجأ لهم لأنني رغم موقعي كمدير عام للمركز، فإنني لست مؤهلا بتوقيع طلبات الإقامة المؤقتة أو توقيع أية وثيقة رسمية أخرى.
كذلك، فإن اسمي غير موجود فى ما يسمى «كومبيوتر كارد »، وهي بطاقة بلاستيكية توليها الإدارات القطرية أهمية قصوى. إنها المفتاح السحري الضروري لإتمام أية معاملة. وللتذكير، فإن الإتفاق تم، عند إنشاء المركز، أن تكون من بين صلاحياتي إمكانية توقيع المعاملات، لكن عند إصدار ال «كومبيوتر كارد » تناسى العاملون إخطاري بالأمر وبالتالي، فإن المديرة العامة المساعدة، مريم الخطار،
هي التي سجلت نفسها مكاني. لكن ما بدا لي، بداية، بأنه أمر لا أهمية له ومعاملة إدارية، تبين لاحقا انه سيفسد علي حياتي، إذ أنه من بين الأشخاص الثلاثة المؤهلين لتقديم طلب تأشيرة إقامة للصحافيين المعرضة حياتهم للخطر، لم يتحرك أحد منهم على الإطلاق لعمل أي شيء. الشخص الأول هو الشيخ حمد بن تامر، الذي كان له حلم وحيد هو أن نفشل في مهمتنا. كذلك، لا يمكننا الإعتماد على وزير الثقافة والفنون والتراث، حمد بن عبد العزيز الكواري، الذي ع رئيسا لمجلس حكماء
مؤسستنا، حيث يوجد قائد الأوركسترا دانيال بارنبويم والممثلة الأميركية ميا فارو والوزير البرتغالي السابق خوسيه لويس أرنو. حمد بن عبد العزيز الكواري هو من مصاف ما يسمى ب «الصف الثاني »
في هرمية السلطة في قطر. هو رجل لطيف، غير أنه لا يخاطر بإزعاج أي فرد من عائلة آل ثاني، لذا فإنه لا يقوم بأية مبادرة من غير أن يحصل على الموافقة الصريحة من الشيخ حمد بن تامر.
اما الشخص الثالث المؤهل توقيع الطلبات، فإنها المديرة العامة المساعدة مريم الخاطر. سبق لي أن ذكرت انها فرضت علينا، فرضا، من قبل مكتب الشيخة موزة، إذ اعتبر أن وجود مسؤولة قطرية في هذا المنصب من شأنه طمأنة مخاوف الذين ينظرون بعين الريبة الى مركزنا.
تدعي مريم الخاطر أنها درست السياسة الدولية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية.
كذلك تدعي، وبكل فخر، أنها أجرت دورة تدريبية في الكونغرس الأميركي. فضلا عن ذلك، تفتخر الخاطر بأنها تشغل كرسيا في المجلس الأعلى للشؤون العائلية. بدا لنا أن لا شيء يؤهلها، بشكل خاص، للإهتمام بحرية الصحافة، فيما تقول هي عن نفسها إنها «موظفة عليا »، لكن الأهم أنها
تنتمي الى عائلة «الخاطر »، المعروف عنها أنها أسست عاصمة قطر القديمة، «الوكرة »، وهي تعتبر__ قريبة من عائلة آل ثاني، وزوج مريم الخاطر هو قنصل قطر في هيوستن.
سريعا جدا، أصبحت علاقاتنا كريهة، إذ أنني كنت أتحمل بصعوبة كل صباح وصولها الى المكتب، يتبعها سائق سيارتها الذي تعامله كالكلب، فهي تطلب منه أن يحمل حقيبة يدها وأن يشغل جهاز الكومبيوتر الخاص بها، إذ ليس معقولا بالنسبة اليها أن تنحني لتطال الزر الذي يشغل الجهاز، ف «الموظفة العليا » لا تنحني أبدا حتى للضغط على الزر. لحسن الحظ، كانت مريم الخاطر تمضي وقتا طويلا في صالونات الشعر والتجميل وفي المحلات الفاخرة، كما أنها كانت تسافر كثيرا، مما يقلل من فرص تبادل الحديث معها، الذي كان دائما عاصفا. أما همها الثابت فكان رغبتها في الحصول على الصلاحيات نفسها العائدة لي وتحديدا تشغيل من تريد. كانت تريد استبدال ساره كيانبور، مسؤولة الإعلام في المركز، التي كانت تقوم بعمل رائع، بأحد أصدقائها، إذ أنها لم تكن تطيقها. فضلا عن ذلك، كانت تريد تعيين مساعدة لها تجيد ثلاث لغات. لقد رفضت المديرة العامة المساعدة التصديق
على توظيف صحافيين اتفقت معهما على توظيفهما في باريس. فضلا عن ذلك، كانت تصر على قراءة البيانات الصادرة عن المركز قبل نشرهما، وكانت تصر على إدخال تعديلات عليها، غير أن هذه التعديلات كانت غريبة ولا علاقة لها بالموضوع. لم تكن تفهم كيف أن موظفي المركز يعملون بعد الظهر ولا يتبعون النظام المتبع في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذين نتقاسم معهم المكاتب
نفسها. كان صبرنا يخضع كل يوم لامتحان مرهق، ورغم ذلك، كنا نخصص لدى كل اجتماع صباحي الكثير من الوقت لنشرح لها ما نقوم به.
أما نقطة اللاعودة، فقد وصلنا اليها عندما رفضت، رفضا قاطعا، التوقيع على طلبات تأشيرات الإقامة المؤقتة في قطر لثلاثة صحافيين، حياتهم في خطر، وكنا نريد إنقاذهم. أحد الثلاثة، خالد خان، صحافي مقيم في بيشاور، في باكستان. تلقى خان تهديدات بالموت من قبل أحد زعماء المافيا وأحد قادة طالبان. أما الصحافيان الاخران فهما أفغانيان: سميع الله شرف وعبد الشكر. دور هذين الشخصين
في مهنة الصحافة أنهما يقومان تقريبا بكل شيء: الترجمة، قيادة السيارة، تنظيم اللقاءات. هذا النوع من الأشخاص ضروري جدا لإتمام عمل الصحافي خصوصا في مناطق النزاع. بالطبع، لا يستطيع اي مراسل خاص أن يستغني عن المساعدة التي يمكن ان يقدمها مثل هؤلاء بفضل خبرتهم ومعرفتم الميدانية وعلاقاتهم. هم الصانعون الحقيقيون للتقارير، التي تمكننا من فهم النزاعات في الأماكن
النائية. هؤلاء الأشخاص يبقون في الظل، ويتركون، حيث هم، عندما ينتهي إعداد التقارير. هؤلاء يركبون المخاطر ويتعرضون اكثر من غيرهم للإنتقام من قبل هذا المعسكر أم ذاك.
سميع الله تعرض للخطف لمدة ثلاثة اشهر على أيدي طالبان في عام 2008 ، حيث كان يرافق الصحافي البريطاني شين لانغان بغرض تحقيق ريبورتاج عن الوضع الأمني في المنطقة الحدودية مع باكستان. لانغان استطاع العودة الى بلاده. أما سميع الله فقد بقي في أفغانستان، حيث كان يعاني من مشاكل نفسية ومن الإحباط والإكتئاب الى درجة أنه لم يستطع استعادة عمله السابق بسبب الرعب، الذي أصابه بعد تجربته المريرة.
أما عبد الشكر، فقد أمضى أربعين يوما في السجن، في عام 2008 ، بعدما كان شاهدا في عملية خطف الصحافية الكندية مليسا فونغ، التي كان يرافقها من أجل ريبورتاج عن المهجرين خارج كابول. سارت الظنون بأنه هو من نظم عملية خطف الصحافية الكندية، وتوجب عليه انتظار إطلاقها حتى يخرج عبد الشكر وشقيقه، الذي كان يقوم بدور السائق، من السجن. منذ ذلك التاريخ، تلقى عبد الشكر وكذلك عائلته تهديدات متكررة من طالبان.
كنا على يقين في المركز أنه يتعين علينا توفير الملجأ لهؤلاء الأشخاص الثلاثة. لقد حصلنا على وعود بأن احدهم يستطيع أن يقدم سريعا طلبا للجوء السياسي في كندا والحصول هناك على عمل. غير أن مريم الخاطر، التي كانت تستمع بالكاد لما نقول لها، بسبب انشغالها بإرسال رسائل قصيرة عبر هاتفها الجوال، كان لها رأي آخر. فعندما كنا نلح في الطلب منها توقيع المعاملات، كانت تجيب بأنها تحتاج لوقت للتفكير بموضوع خالد خان. أما الأفغانيان فكانت تقول بأنه لا يمكن لهما الإستفادة
من مساعدة المركز لأنهما ليسا صحافيين، وقالت يوما: » إنهما يقودان سيارة الصحافيين ولكنهما ليسا صحافيين. لن نصل حتى الى الإهتمام بالصبيان المكلفين جلب الشاي ». ما سمعناه منها أرعبنا حقا.
في اليوم التالي، حاولنا مجددا بخصوص خالد خان. ذهب مسؤول المساعدة في المركز للتحدث اليها وحده، فاستقبلته في مكتبها من غير أن تدعوه الى الجلوس. كان واقفا أمامها يشرح لها ان حجم التهديدات، التي يتعرض لها الصحافي، خطيرة، وأن الحاجة لمساعدته ملحة. مرة أخرى، ادعت أنها بحاجة للتفكير بالموضوع، لكنه أصر على طلبه وأشار الى أن جواز الصحافي سينتهي مفعوله وبالتالي سيكون من الصعب عليه في الظروف الراهنة تجديده، وشرح أيضا كيف أن الشخص المعني يعيش مختبئا مع عائلته منذ عدة اشهر. وما كان من مريم الخاطر ان قالت له: «قلت لك إنني سأفكر بالأمر. والآن عندي أولويات أخرى »، مشيرة اليه بأن يخرج، فرد عليها المسؤول قائلا: «ما هي الأولويات الأخرى غير إنقاذ صحافيين، حياتهم معرضة للخطر؟ »، لكنها أمرته مجددا بالخروج وقالت له: «أمرك بإظهار الإحترام لي. إذهب وإلا سأستدعي الأمن .»
عقب هذه الحادثة، عمد الموظفون، الذين أغاظهم تصرف المديرة العامة المساعدة وأفقدهم القدرة على الصبر، الى كتابة العريضة التالية، يعبرون فيها عن فقدان الثقة بها: «إن السيدة مريم الخاطر، المديرة العامة المساعدة لمركز الدوحة للإعلام، برفضها الموافقة على طلبات الإستقبال المؤقت لثلاثة صحافيين معرضين لمخاطر شديدة في بلادهم، لم تعرض حياة هؤلاء المهنيين للخطر وحسب، بل إنها أيضا أظهرت الازدراء، الذي تكنه لعمل موظفي المركز.
إن كل طلبات المساعدة، التي نرفعها للمسؤولين، تخضع من قبلنا لتحقيق مسبق ودقيق ونستعين، للقيام بها، بخبرتنا وبمعرفتنا بالأوضاع المعقدة، التي يعاني منها الصحافيون حيث يكونون مهددين.
إن كل فرد منا وافق على الإلتحاق بمركز الدوحة لسبب واحد ووحيد: توفر الفرصة لمساعدة زملاء مضطهدين أو مهددين أو يعانون من صعوبات.
إن ممارسات وطريقة تصرف السيدة مريم الخاطر لا يمكن قبولها وهي غير جديرة بهذه المهمة، الموكلة إليها في مركز الدوحة لحرية الإعلام، لذا نرفض، منذ اليوم، الاعتراف بسلطتها وبأهليتها في الإشراف على عملنا .» لقد قررت من جهتي أن أقدم هذه الملفات مباشرة الى رئيس مجلس الإدارة، إذ كنت ساخطا على
الطريقة التي تسير بها الأمور. لقد شرحت له بأنني لا أقبل أية عرقلة لعمل الفريق، الذي يعمل معي أو أن تنتهك الالتزامات، التي قدمتها الشيخة موزة، غير أن صديقة تعرف جيدا عادات البلد، قالت لي لاحقا، وهي تبتسم، إن رئيس مجلس الإدارة فهم عندما رآني غاضبا بهذا الشكل، أنني أريد زيادة في مرتبي، وكعادته، تحجج الشيخ حمد بن تامر بموعد آخر طارىء ووعد بأنه سيطلب من مكتبه قراءة طلباتنا، غير أنه لم يوقع هذه الطلبات وما زال خالد خان وسميع الله شرف وعبد الشكر
متروكين وحدهم لمصيرهم.
الفصل الثاني عشر
رهينة
كنا ذاك المساء نتناول العشاء: مجموعة من الأجانب، جميع أفرادها يجيد الفرنسية. كل من الحاضرين لديه قصة صغيرة يرويها. فالفرنسية الشابة، لم تجد صعوبة في العثور على عمل بفضل شهادة الهندسة البتروكيماوية، التي تحملها. والخبير السويسري في استثمارت المالية المعفية من الرسوم، نجح في مضاعفة مرتبه ثلاثة مرات بمجيئه الى الدوحة من أجل العمل، أما رجل الأعمال اللبناني، فقد شرح لنا أنه ينتظر منذ ستة أشهر توقيع عقد قيمته مليوني دولار. وقال آخر إنه قلق لقانون
جديد أصدره الأمير، والذي يمنع استخدام الأجانب في الدوائر الحكومية القطرية. ينص المرسوم على رفع معاشات الموظفين والمساعدات المقدمة للمواطنين القطريين فقط. فالمساعدة لتجهيز أثاث البيت ارتفعت الى ستة آلاف دولار، فيما وصلت قيمة المساعدة الإجتماعية الى ألف دولار في الشهر.
جميع الحاضرين كانوا من غير المتزوجين، باستثاء فيليب البلجيكي، الذي جاء الى السهرة برفقة زوجته الجميلة، ألس، وولديه رالف وروكسان، الأول عمره سبع سنوات والثانية عمرها تسع سنوات.
عندما لا يكون فيليب بصدد اللعب مع ولديه، فإنه يلتصق بزوجته، يقبل كتفها سرا ويتابع الحديث من بعيد. كان يبدو في مكان آخر وهذا ما يمكن فهمه إذ ان زوجته وأولاده كانوا سيغادرون في اليوم التالي بالطائرة الى بروكسيل، مما يعني ان أسبوع الإجازة في الدوحة قد انتهى، وان هذا اللقاء العائلي هو حدث استثنائي في إطار كابوس يعيشه الرجل – الرهينة في قطر منذ عدة شهور.
بدأت قصة فيليب بوغايرت، البالغ من العمر 37 عاما والمتخصص في الترويج الإعلامي في عام 2008 ، عندما اعتبر أنه حصل على فرصة مهنية رائعة، ذلك أن الوكالة البلجيكية التي يعمل لها، «ديالوجيك »، قامت بتوقيع عقد كبير مع قطر من أجل إطلاق النسخة الأولى من المهرجان البحري، Marine Festival ، وهو المهرجان المتخصص في التعريف بالمهارات البحرية التقليدية لقطر. وصل
فيليب الى الدوحة، في شهر أبريل، في مهمة كان يفترض فيها أن تدوم عدة شهور على الأكثر، غير أن الشركة المتفرعة عن «ديالوجيك » في قطر، سريعا ما واجهت صعوبات بسبب تأخر اللجنة الرسمية لتنظيم المهرجان عن دفع الفواتير المستحقة عليها. في شهر يوليو، وافق فيليب على يتولي مسؤولية الشركة على أن يعمد الى تنقية حساباته، لكن بعد أيام، ألغت اللجنة المنظمة للمهرجان العقد مع شركته من غير أن تدفع المتأخرات المستحقة عليها. يروي فيليب أنه «كان يريد
رفع دعوى ضد المنظمين، لكن المساهمين في الشركة وجدوا أن الكلفة ستكون مرتفعة، لذا قرروا الإمتناع عنها .»__
الواقع أن المساهم الرئيس في الشركة، كما تفرض ذلك القوانين القطرية، هو مواطن قطري. وكثيرون في قطر حولوا هذا المعطى الى وسيلة للكسب، نظرا لأعداد المستثمرين، الذين يذهبون الى الدوحة، لذا، ورغم أنهم لا يملكون مؤهلات خاصة لذلك، فإنهم يكثرون من الدخول في شراكات جديدة، من غير أن يستثمروا ريالا واحدا، وذلك بصفتهم «شريكا محليا ». أما إذا كانت لديهم، الى جانب ذلك،
وظيفة حكومية ما، فإن ذلك افضل بكثير، إذ يستطيعون استخدام وظيفتهم للحصول على بعض المنافع.
لقد فوجئنا يوما بالوقوع على رجل شاب، خفور، قدم لنا على أنه مساعد مدير مكتب الشيخة موزة.
ما كان هذا الرجل ليثير اهتمامنا لو لم يعرف عن نفسه ويعطي اسمه: فاروق أسد. هذا الشاب، غير المثير للإهتمام، هو في الواقع «الشريك المحلي » لصديقنا فيليب وهو أيضا سبب مشاكله. ذلك أنه لم يكتف فقط بأن عارض اللجوء الى المحاكم لتحصيل الفواتير غير المدفوعة، بل إنه اتهم فيليب بأنه خسر العقد، لذا فإنه طلب منه مبلغ 3 ملايين يورو بمثابة عطل وضرر، أي ما يساوي قيمة الديون
المتراكمة. هذا الواقع لا يمكن تصديقه من الزاوية الحقوقية. لكن القانون في قطر يخبىء لنا الكثير من المفاجآت ويرتكز أساسا على مبدأ، من الأفضل الإطلاع عليه، وهو أن الأجانب هم دائما على خطأ.
يحتاج فيليب لمغادرة قطر لإذن بالخروج يجب أن يوقعه شريكه المحلي، غير أن هذا الشريك يرفض توقيع إذن لأنه، إن فعل، يصبح مسؤولا عن الديون، لذا فإنه يرفض التوقيع.
أما وزارة الداخلية، فإنها تؤكد أن فيليب سيكون حرا في المغادرة عند الإنتهاء من الجوانب القانونية، أي بعد عدة أشهر إن شاء الله. الدعوة فتحت بداية عام 2009 ، غير ان الجلسات اجلت بسبب غياب فاروق أسد. وقد حكم على فيليب في دعوى أخرى بالأشغال الشاقة لمدة ثلاثة اعوام بسبب توقيعه شيكات من غير رصيد، لكن من المتعارف عليه في قطر، ان يتم التوقيع المسبق على شيكات من أجل ضمان دفع قيمة إيجارات البيوت لمدة عام. بالطبع، كان فيليب يجهل عندما وقع هذه الشيكات أن الشركة التي يعمل لها ستصاب بالإفلاس وأن توقيعه يلزمه بأمور تفوق قدرته المالية. كما كان متوقعا، قدم طلبا لاستئناف الحكم ولكن، بالإنتظار، عول على كرم اصدقائه لدفع كلفة المحامي.
في ما يزيد من تعقيد الأمور، رفع فاروق دعوى ثالثة عليه بحجة أن فيليب ذكر اسمه على مدونة إلكترونية تحت عنوان «رهينة في قطر »، كان الغرض منها لفت الإنتباه للوضع الذي هو فيه.
يبدو واضحا أن هذا الشخص الباكستاني الأصل والذي حصل على الجنسية القطرية في عام 2006 ، قد فهم المزايا، التي يستطيع الإستفادة منها بحصوله على الجنسية القطرية.
هكذا وجد فيليب نفسه في وضع حرج، إذ أنه لا يملك رخصة للعمل وليس لديه أي مدخول. لقد ساعده سفير بلجيكا في قطر، الذي وضع بتصرفه غرفة في مقر إقامته، غير أنه يمتنع عن التدخل بقوة لدى السلطات القطرية من أجل مساعدته، إذ أنه يعتبر ان الدفاع عن مواطن بلجيكي لا تستأهل إثارة المقربين من الأمير، الذي يملك مئات الهكتارات من الأراضي في بلجيكا. يعمد فيليب، من أجل توفير وسيلة العيش، الى إعطاء دروس في السباحة كما انه يلعب الغيتار في بعض البارات
والفنادق، في الدوحة، حيث يحصل فقط على بعض البخشيش.
نعرف القليل من الناس الذين يحافظن، في ظروف كهذه، على الأمل والإبتسامة، غير أن فيليب حافظ على الإثنين معا ولوقت طويل. لكن في شهر سبتمبر، بدا له أن الأمور لا تسير في الإتجاه الصحيح، بل على العكس، وتبين له أن الحل الوحيد هو الهرب.
بفضل مساعدة بعض الشركاء، نجح فيليب في الهرب، مختبئا على متن مركب، حيث ذهب الى اليمن ومن هناك الى بلجيكا. بالطبع، هذا الهروب حرمه من أية إمكانية للحصول على تعويض عما لحق به. خلال عام كامل، احتجز رغما عن إرادته، من غير محاكمة ومحروما من أية موارد، بعيدا عن عائلته كما أنه خسر كل ما كان قد نجح في توفيره.
ليس ما حصل ل فيليب حالة معزولة. ف هايدي، صحافية ألمانية جاءت الى قطر عام 2006 ، للمشاركة في إطلاق قناة «الجزيرة » بالغة الإنكليزية، ممنوعة أيضا، ومنذ شهور، من مغادرة قطر. هايدي كانت موظفة في الجمعية القطرية لكرة القدم، التي يديرها أحد افراد الأسرة الحاكمة، وسحب منها الإذن بالمغادرة بعد تسريحها. ما حصل، أن مستخدمها سارع الى إعلام المصرف بتسريحها، فما كان من المصرف إلا أن طالب بالتسديد الفوري لكامل القرض المعطى لها. بما أنها كانت عاجزة عن ذلك، فقد وجدت نفسها حبيسة هذا النظام الغريب النافذ في قطر. هايدي كانت أقل حظا من فيليب إذ أن عليها أن تدفع إيجارا مقابل إقامتها في السفارة الألمانية.
رجل الأعمال البريطاني من أصل باكستاني جاءته، للأسف، فكرة استثمار مبلغ قدره مليون ريال، 200 ألف دولار، وذلك عن طريق تأسيس شركة في الدوحة. في شهر مارس من عام 2009 ، وبعد الحصول عل الأوراق الرسمية، طالبه شريكه القطري بمليون ريال إضافي، وبما أن البريطاني رفض الطلب، فقد سحب منه القطري إذن الخروج من البلد.
اثنتان من الفريق العامل في المركز، منعتا من مغادرة الدوحة رغم أنهما كانتا ترافقانني: الأولى في رحلة الى البحرين، حيث كان لي موعد مع وزير الإعلام البحريني والثانية الى بيروت، حيث كان هناك اجتماع مقرر مع ممثلين عن الأمم المتحدة. في الحالتين، تمت تسوية الأمور بسرعة، غير أن مريم الخاطر،
المديرة المساعدة للمركز، التي وقعت الأوراق التي تمنع الخروج، وجدت في هذه الطريقة وسيلة للتذكير بأنها تمتلك بعض السلطة. ليس ثمة من حاجة للتذكير بأن التوقيف عند نقطة حدودية، أو منع الصعود الى الطائرة، تعد تجربة مرة.
ممنوع علي بسبب نشاطي على رأس منظمة «مراسلون بلا حدود » الدخول الى عدد من الدول، منها الصين والجزائر وبوركينا فاسو وتونس وكوبا. عند النظر الى الأسباب، التي جعلتني أوضع على اللائحة السوداء لهذه الدول، فإنني أشعر بالاعتزاز. لكنها المرة الأولى في حياتي، وعندما كنت في خطر، خفت في بعض الأيام ألا أكون قادرا على مغادرة هذا البلد. كنت أقول لنفسي إنهم لن يجرؤوا على
ذلك، غير أن ما كنت أراه حولي، كان يدعوني لالتزام جانب الحذر، وتوقع الأسوأ.
ان قصص هؤلاء الأجانب، الممنوعين من السفر والمتروكين لوحدهم يتدبرون شؤونهم من غير دعم دبلوماسي، من جانب بلدانهم، لا يبدو أنها تثير اهتمام الصحافيين، الذين يدعون بأنهم يقومون بتحقيقات عن الإمارة. لست ساذجا الى الدرجة التي أعتقد فيها أنهم لم يسمعوا بتاتا بهذه القصص. إنني اخجل من هذه المهنة، التي احترم، والتي أثابر في الدفاع عنها، عندما أشاهد الريبورتاج،
الذي بثه تلفزيون «أم »6 ، في شهر يوليو من عام 2009 ، الذي لم يتناول سوى الجانب الترفيهي من حياة الفرنسيين المقيمين في الدوحة، مثل المرأة التي كانت تعمل في السفارة الفرنسية، والتي انتدبت لإنتاج برامج فرانكوفونية لإذاعة قطر أو مثل ألبان دو ميول، مدرب الخيول العربية الأصيلة، التي يملكها الشيخ عبدالله بن خليفة آل ثاني، شقيق الأمير. كلاهما يعيش حياة مرفهة في قطر، ولا سبب لدينا في أن نشكك بصدقهما عندما يتحدثان عن «حياة الأحلام »، التي يعيشانها في
قطر، غير أنني أجد أن ما طلباه مقيتا، عندما أصرا على عدم إجراء مقابلة معي في البرنامج نفسه.
كذلك، أجد موقف الصحافي، الذي حقق البرنامج مثير للشفقة، إذ جاءني لمقابلة دامت ساعة كاملة وهو يعرف سلفا أنه لن يحتفظ بأي شيء مما قلته له في المقابلة. صحيح أن خطابي عن الحياة في قطر يختلف عن الخطاب السائد. هكذا، فمقدمة البرنامج استطاعت أن تتحدث بهدوء عن قطر مقدمة إياها على أنها «فردوس حقيقي بالنسبة للفرنسيين الذين يقيمون فيها »، ثم اضافت: »إنها جنة عدن الجديدة ». أليس في ذلك بعض المبالغة؟
في السياق نفسه، يندرج التقرير، الذي بث في إطار برنامج «مبعوث خاص ،ENVOYE SPECIAL،» بداية عام 2009 ، والذي كرس لشبان الضواحي من أصول عربية، الذين يعانون صعوبات جمة في العثور على عمل في فرنسا، بينما تستقبلهم قطر وتفتح لهم ذراعيها. ذلك أن هذه الرؤية مزيفة، إذ كيف يمكن ان نبدي اندهاشا من أن اللغة العربية يمكن أن تشكل ورقة إضافية في بلد خليجي
أكثر مما هي عليه في ضاحية بانيوليه؟ كذلك، علينا ألا ننسى أن نسبة البطالة في قطر هي رسميا 0.5 بالمئة، وبالتالي هناك فرص للعمل. لكن يتعين أن نضيف انه في اليوم الذي يفقد فيه الأجنبي العمل، يصبح مدعوا للعودة الى بلاده.
يمكن أن نشير ايضا، في السياق عينه، الى البرنامج الذي بثته قناة «كنال بلوس »، حيث عبرت مقدمة البرنامج، مايتينا بيرابن، بإعجاب عن «الخيارات المثالية لقطر في ميدان التعليم ». كانت المذيعة قد اختتمت برنامجها بالقول إن «قطر اختارت الإستثمار في الكائن الإنساني ». الحقيقة ربما تكون أكثر تعقيدا.
منذ عدة أشهر يقوم التلفزيون والصحف الفرنسية بالترويج بقوة للأعجوبة الاقتصادية القوية، ولصورة الإمارة، كمنارة للحداثة، الى درجة أن الشيخ سيكون قد تحول الى ديمقراطي، والدوحة الى العاصمة العالمية لحقوق الإنسان.
لا شك أن قطر، التي تملك احتياطيا من الغاز الطبيعي، يبلغ 509 تريليون متر مكعب، قد دخلت مرحلة من الإزدهار، لكن ليس في ذلك أعجوبة اقتصادية ولا رؤية مستقبلية. أما بالنسبة للحداثة، فقد توقفنا عن السعي للتأكد من أن لها حدود، لكن القليل من الوسائل الإعلامية يريد أن يلقي الضوء على ذلك الواقع. ذات يوم، اتصل بي مراسل لوكالة رويترز، يتسم بالسذاجة، إذ أراد أن يجري مقابلة معي عن المركز، لكنه كان يريد أن «أقول فقط أشياء إيجابية »، ويبدو أنه لم يستفسر عني
بما فيه الكفاية.
إن المفاجأت المزعجة، التي حصلت ل فيليب ولأجانب آخرين، خدعوا في قطر، هي بمثابة تحذير للذين، كل الذين، يجذبهم هذا السراب: رواتب مرتفعة، غياب الضرائب، فيلات مريحة والشمس طيلة أيام السنة. بحسب دراسة دولية صدرت في شهر يونيو من عام 2009 ، فإن الأجانب في قطر هم الأكثر يسرا في العالم، حيث أن ربعهم يكسب أكثر من 200 ألف دولار في العام. لكن ثمة ثمن يتوجب
دفعه هو إمكانية الوقوع رهينة بيد الشريك المحلي، الذي يملك القدرة على أخذ الأجنبي رهينة في قطر. أكان الأجنبي مهندسا يعمل في مصفاة أم عاملا بسيطا، فإن الطريقة هي نفسها للحصول على إذن بالإقامة. ذلك أن الكفيل أو ال SPONSOR ، أي المواطن القطري الذي يتعين عليه أن يوقع على
الطلب، الذي ينقل الى وزارة العمل. وغالبا ما يكون الكفيل ورب العمل واحدا، لذا، فإن «الكفالة ،» التي تقوم على توفير يد عاملة رخيصة، غالبا غير مؤهلة، توضع بتصرف الشركات المحلية، وقد يتحول، بالنسبة لبعض القطريين، الى مصدر مزدهر لتحقيق أرباح. هكذا، يحصلون على عائد دائم من غير أن يصرفوا ريالا واحدا.
إن النظام المعمول به في قطر، وفي غالبية دول المنطقة، يسمى »الكفالة »، بالرجوع الى القواعد الإسلامية المطبقة في حال التبني. لذا، فإن كل عامل أجنبي هو تحت الوصاية مثل القاصرين.
فالكفيل هو الذي يضمن تصرفات العامل الأجنبي، الذي تعود اليه مسؤولية رعايته. من الناحية النظرية، إذا غادر عامل أجنبي قطر، وترك وراءه ديونا، فإنه يتعين على الكفيل أن يقوم بتسديدها، غير أن هذه الحلة نادرة. لتلافي حدوثها، تتم مصادرة جواز سفر الأجنبي رغم أن هذه الممارسة ممنوعة قانونا. في أي حال، يتعين على الأجنبي أن يحصل على إذن بالخروج. الأكثر حظا يحصلون على إذن
بالدخول والخروج عدة مرات، صالح لعام كامل، لكن هذا الإذن لا يشكل ضمانة لحرية الحركة مثلما اختبرت ذلك عاملتان في المركز، إذ يمكن مصادرة هذا الإذن في أية لحظة.
أخيرا، وطيلة مدة الإقامة في قطر، يتعين الحصول على توقيع الكفيل على كل عقد يبرمه الأجنبي، إن كان ذلك عقد إيجار شقة أو سيارة، أو اشتراك بشبكة الهاتف أو فتح حساب مصرفي، أو حتى طلب رخصة للتمكن من الدخول الى بار يقدم الكحول. في كل الحالات، يتعين على الأجنبي ان يطلب إذنا من الكفيل. هذا النظام، إذا ما نظرنا اليه برفق، فإنه طفولي. أما إذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها، فإنه الشكل الحديث للعبودية، لا أكثر ولا اقل.
قبل ان يحصل الأجنبي على رخصة إقامة، يتعين عليه أيضا أن يخضع لفحص طبي سريع يتضمن صورة أشعة للرئتين وفحص للدم للتأكد من عدم إصابة الوافد بوباء الأيدز. كل تشخيص للإيدز يعني الطرد الفوري للأجنبي. يتم تبليغ رب العمل برسالة صادرة عن الوزارة.
السرية الطبية غير موجودة في قطر، كما أن وباء الإيدز غير موجود كذلك هناك، غير أن طبيبا أخصائيا بأمراض النساء اخبرنا أنه رأى بنفسه حالات إصابات عديدة لدى العمال الأجانب، رغم أن هؤلاء لم يكونوا يحملون الوباء لدى وصولهم الى قطر. عندما تعرف حالات المصابين، يتم ترحيلهم سريعا الى بلادهم. الطبيب نفسه أكد أيضا أن القطريين ليسوا معصومين عن هذا الداء، غير أنهم يستفيدون من معالجة مناسبة وإذا ما تدهورت حالتهم، فإنهم يذهبون الى الخارج بحثا عن تطبيب
أكثر نجاعة، لذا، وانطلاقا من ذلك، فإن السؤال المطروح هو: ما فائدة تقصي هذه الأمراض؟
يقول الطبيب الإختصاصي إن إجراء اختبارات الأيدز غرضها الحقيقي أخذ عينة من دم الوافد، وبذلك تكون السلطات قد شكلت بنكا للمعلومات يتضمن AND الأجانب، ما من شأنه أن يسهل لاحقا تحقيقات الشرطة.
الفصل الثالث عشر
الالتحاق بالفيلا رقم 7
عندما أصبح واضحا لنا أننا لم نعد قادرين على استقدام لاجئين جددا، وأن علاقات فريقنا مع المديرة العامة المساعدة لم تعد تطاق، قررت أن نترك المكاتب، التي نتقاسمها مع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، فانتقلنا الى الفيلا رقم 7، التي كانت معدة لاستقبال الصحافيين، والقائمة في شارع لا اسم له. قمنا بالإنتقال، مساء، فلم نأخذ معنا إلا الأشياء الضرورية، مثل الكومبيوترات والقرطاسيات والملفات المساعدة، وعدد من الملفات الصفراء، حيث نحتفظ بالمعلومات عن المنح،
التي قدمناها للصحافيين أو للمؤسسات الصحافية، التي تعاني من صعوبات. في الساعات الحرجة من وجودنا في قطر، كان مجرد التفكير بطلبات المساعدة، التي تلقيناها من العالم أجمع، يشكل باعثاً يشعنا على المثابرة. ذلك ان شهرة المركز كانت تنمو وكان علينا أن نكون متأهبين دوما لنداءات المساعدة القادمة من الصومال وأفغانستان وباكستان وكوبا وبورما، كما أن ميزانية العام الأول كانت
تتيح لنا أن نساعد عائلة صحافي عراقي اغتيل في بغداد، أو نتكفل كلفة المعالجة لصحافي أصيب بالرصاص في مكسيكو، أو أن ندفع أتعاب محام في غامبيا ليدافع عن صاحب صحيفة، ملاحق لأنه ندد بالفساد المستشري في بلاده، أو أن نساعد محطات إذاعية في هاييتي كانت ضحية الإعصار.
كان العاملون في المركز يقومون بنقل هذه المساعدات، بأنفسهم، عندما كان يصعب نقلها بالطرق الكلاسيكية. مثل هذه المهمات، وتحديدا في كوريا أو في بورما، كانت محفوفة بالمخاطر وتتطلب تحضيرا دقيقا. كذلك، قمنا بتنظيم بعثات للتحقيق، وهي خطوة ضرورية للتعرف على الحاجات او لإبراز الحقيقة. كنا نريد التحقق من دور وسائل الإعلام في البحث عن السلام، في السودان أو إسرائيل.
وفي هاييتي، كنا نريد أن نعرف لماذا بقي اغتيال جان دومينيك من غير عقاب، رغم مرور تسعة أعوام على قتله. كذلك، كنا نريد أن نقوم بتحقيق في المكسيك، حيث قتل أكثر من 50 صحافيا، منذ عام 2000 . أخيرا، كنا بصدد إقامة بنى أو هياكل رائعة، لا مثيل لها، كإطلاق وكالة صحافة صومالية مركزها جيبوتي أو مركزا صحافيا مستقلا في غزة.
غير أن مريم الخاطر، التي استشاطت غضبا بسبب تركنا المكاتب، قررت أن تجعل حياتنا مستحيلة. فقد استمرت في رعاية مركز مواز لمركزنا. غير أن الغرض الفعلي لها، كان إطلاق أسوأ الإشاعات بحقنا واستغلال علاقاتها في قطر لإزعاجنا. وبما انها كانت تملك حق التوقيع باسم المركز، فقد كنا عاجزين عن القيام بأية مبادرة بما فيها مد خط هاتفي والحصول على شبكة الانترنت. كنا نستخدم هواتفنا
النقالة للإتصال، أما بالنسبة للانترنت، فإن الحظ حالفنا، إذ كنا نلتصق بحائط الجيران للتمكن من قراءة رسائلنا الالكترونية. ثلاثة من موظفي المركز ينتظرون منذ أسابيع أن تسوى أوضاعهم،__
إذ أن ملفاتهم جمدت، ونحن عاجزون عن مساعدتهم. فضلا عن ذلك، كنا مضطرين أن ندفع المرتبات، نقدا وعدا، وهو أمر يخالف القانون.
أما الشيخ حمد بن تامر، فقد حاول أن يفرض علينا نظاما داخليا يخالف تماما النظام الداخلي، الذي أقره مجلس الإدارة. لكن ما هو هدفه؟ فرض رقابته على كل ما يقوله المركز أو ما يقوم به وذلك عن طريق إلزامنا بإطلاعه على كل بيان ننشره، مهما كان صغيرا، وعلى كل مشروع بإعطاء أية منحة للمساعدة. كل ذلك كان يجب أن يحظى بموافقته المسبقة، وبالطبع، لم نكن مستعدين لقبول ذلك.
للأسف، بقيت كل طلبات المواعيد، التي أودعناها مكتب الشيخ موزة من غير جواب. والحال أنها كانت الوحيدة القادرة على إيجاد المخرج وأن توفر الوسائل حتى ننجز المهمة، التي من أجلها طلبت منا المجيء الى الدوحة. عندها، قررت أن أنشر على الانترنت رسالة مفتوحة، أطلب فيها من سيدة قطر الأولى أن تبقى ضامنة للقيم والمبادئ، التي كانت وراء إطلاق المركز.
نص الرسالة:
«سمو الشيخة،
لقد علمت بهلع، قبل عدة أيام، بخبر اغتيال صحافي أفغاني شاب في مدينة قندهار. فبينما كان في سيارته، قطعت عليه سيارة أخرى الطريق وأطلق أحد ركابها النار عليه. كان اسمه جواد ياظمي وكان يبلغ من العمر 23 عاما. كان يرافق، بشكل منتظم، المراسلين الصحافيين الخاصين لعدة وسائل إعلامية غربية، خلال إقامتهم في هذا البلد. كانت طالبان تعرف هويته لأنه ساعد، أكثر من مرة، صحافيين اجانب للإتصال بهم، في إطار عملهم لتحقيق ريبورتاجات. لما شعر انه مهدد، قدم طلبا
للجوء الى كندا.
للأسف، لم يعد بمقدورنا أن نقوم بأي شيء لمساعدة جواد ياظمي باستثناء توفير مساعدة مالية لعائلته، مركز الدوحة يجهد لتأمين ذلك. لكن بالمقابل تقع علينا مسؤولية حماية صحافيين آخرين يتعرضون للتهديد أيضا. يتعين علينا أن نستقبلهم في الدوحة خاصة وأن بنية المركز مؤهلة لذلك.
لكن رغم خطورة التهديدات، التي تلقي بثقلها على العديد من الصحافيين، ورغم نداءاتنا المتعددة منذ أشهر، فإن الجهات القطرية، التي نتعاطى معها ترفض إعطاءنا التأشيرات الضرورية.
الحال، أن إحدى مهام المركز هي تحديدا توفير الحماية للصحافيين قبل أن يفوت الأوان.
إنني اجهل الأسباب التي تدفع بالمسؤولين القطريين الى رفض توفير الملجأ المؤقت لهؤلاء الرجال والنساء، الذين تلقوا تهديدات بالقتل. إنها مسألة يتعين عليهم حلها مع ضمائرهم. لكنني لن أضحي أبدا بالمبادئ التي يقوم عليها مركز الدوحة ولن أتخلى أبدا عن أي من الإلتزامات، التي التزمت بها، والتي تبنيتها لدى إنشاء المركز، الذي سيفقد معنى وجوده إذا لم نوفر الوسائل، التي تكفل لنا التحرك من أجل إنقاذ حياة هؤلاء الأشخاص. لا شيء اكثر اهمية من هذا الأمر.
منذ شهور، يسعى اشخاص من محيطك والذين سميتهم على رأس المركز لوضع العصي في الدواليب ويحاولون بكل الوسائل الحد من استقلاليتنا ومن حرية تحركنا وكلامنا، أي من صدقيتنا.
هذا الأمر لا يمكن قبوله. لذا أطلب منك وبشكل علني أن تكوني ضامنة لهذه القيم والمبادىء، التي كانت في اساس إطلاق المركز، وأن تفرضي احترامها بحيث تكون مفخرة لقطر .»
لم يسبق لأحد أن قام بشيء كهذا أو أن توجه الى سموها في رسالة مفتوحة أو على الأخص ندد بالمناورات الدنيئة، التي تقوم بها شخصيات تنتمي الى الدائرة الأولى للسلطة، أو سلّط الأضواء على وزن القوى المحافظة في هذا البلد، الذي يريد أن يروج عن نفسه صورة الحداثة. مبادرتي أحدثت ضجيجا كبيرا. بعضهم حيا، في مجالسه الخاصة شجاعتي وعزمي. وقال لي مدير إحدى الصحف اليومية
إنه يدعم ما قمت به، لكنه إذا فعل ذلك علنا، فسيخسر مكانه. كثيرون اعتبروا أنني تجاوزت الخطوط الحمراء ودعوني الى الإستقالة. أما الشيخة موزة، فلم تجد جرأتي منفرة. المهم أنها حددت لي موعدا في الأول من أبريل. أعتقد، من دون أدنى شك، أنه كان علي أن أكون أكثر ارتيابا من هذا الموعد.
كانت الأمور أجمل من ان تكون حقيقية، فخلال اللقاء الذي دام أكثر من ساعة بقليل، وعدتني الشيخة موزة بتسوية كل المشاكل العالقة. بدت أنها فوجئت عندما علمت أنني لا أملك توقيعا رسميا باسم المركز، وانه يتعين علينا أن نكون تحت رحمة مزاج المديرة العامة المساعدة مريم الخاطر وما تقرره، أو تحت سلطة الشيخ حمد بن تامر، ذي النفوذ، ومسؤول قناة «الجزيرة »، بخصوص أية معاملة إدارية مهما كانت تافهة. أكدت لي الشيخة موزة بأنها ستقوم بما هو ضروري لتسوية
الوضع، كما انها التزمت بأن تجد، سريعاً، منصبا جديدا لمريم الخاطر، إذ من غير الممكن التخلص منها.
هذا يعني أن غياب الكفاءة وعدم الجدارة لدى المعنية سيوفران لها ترقية. أشارت الشيخة موزة أنه، بطبيعة الحال، سأكون حرا في اختيار مدير عام مساعد شرط أن يكون قطري الجنسية. كذلك، أكدت أن القانون الداخلي، الذي يريد الشيخ حمد بن تامر فرضه، سيتم تناسيه.
استدارت الشيخة موزة نحو المدير القانوني في مكتبها لتتأكد أنه سجل كل ما قالته وشددت على ضرورة دفع ميزانية المركز للعام المالي الجديد من غير تأخير، خصوصا أن العام المالي بدأ في اليوم نفسه.
من جانبي، قلت للشيخة موزة إن مواقفي وطرق العمل، التي أتبعها، والتي لا تتوافق مع ما هو معهود به في الإمارة، قد سببت لنا عداء الكثير من المواطنين القطريين. قلت لها، أيضا، إنني أعي الوضع الصعب، الذي أضعها فيه بسبب ذلك. غير ان الشيخة موزة ابتسمت وأكدت لنا أن المهم هو أن نستمر، اكثر فاكثر، في تغيير حدود الأمور، وأن نتكلم بصراحة. قالت انها كانت تعي، عندما كلفتني بهذه المهمة، أننا سنحرك المياه الآسنة. برأيها، أنه من الأصعب دفع قضية حرية الصحافة في قطر، وتغيير وضع المرأة أو تحديث النظام التربوي. الشيخة موزة موجودة على كل الجبهات، في الوقت عينه، هي تعي وجود قوى المعارضة، التي يتعين عليها مواجهتها أو وزن الإرث البدوي داخل السكان، الذين لا يجدون أي عائق اقتصادي من شأنه أن يدفعهم لإعادة النظر بطريقة عيشهم أو تفكيرهم.
قبل أن ينتهي اللقاء، وعدتني زوجة أمير قطر بأنه سيتم التصديق على الوثيقة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، التي ينص البند التاسع عشر منها على حرية الرأي والتعبير والإعلام، وذلك بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، في الثالث من مايو القادم. كذلك التزمت بالسماح بإنشاء اول جمعية للصحافيين في قطر.
خرجت من المكتب مطمئنا وواثقا وإن كنت لا أجهل أن هناك مؤمرات أخرى ستحاك ضدنا. في هذه النقطة بالذات، لم نخطئ الحكم.

الفصل الرابع عشر
العبودية الحديثة
منذ عام 1949 واكتشاف آبار النفط، تضاعف عدد سكان قطر خمسين مرة. الأجانب يمثلون 85 بالمئة من مجموع السكان ومئة بالمئة من العمال. غالبيتهم جاءت من جنوب آسيا والشرق الأوسط. إذا كانت قطر تقع في المرتبة الرابعة لجهة عدد ساعات العمل في الأسبوع، فلا شك أن ذلك ليس بفضل القطريين أنفسهم.
شكل الاختلال بين الجنسين إحدى النتائج، الأكثر بروزا، لهذه الهجرة الكثيفة لليد العاملة الأجنبية نحو قطر. وفق الأرقام الرسمية للمعهد الوطني للإحصاء، فإن أعداد الرجال تزيد اربعة أضعاف عن النساء، إذ يبلغ عدد الذكور 1247844 شخصا، بينما يبلغ عدد الإناث 349908 امراة.
هذا الوضع ليس خاصا بقطر وحدها، بل إنه يتكرر بالشكل نفسه في كل دول الخليج. كان وزير العمل في البحرين، مجيد العلوي، أحد القلائل، الذين يحذرون بشكل مفتوح من المخاطر المترتبة على هذا الوضع. يرى العلوي أن أو وجود حوالي 17 مليون عامل أجنبي في المنطقة يشكل «خطرا أعظم من خطر القنبلة النووية ». بحسب ما يقوله فإن العدد «سيصل الى 30 مليون، من الآن وحتى عشر
سنوات ». لا يتردد الوزير البحريني في وصف السكان الأصليين بأنهم «كسالى »، و «أطفال مدلعون .» يؤكد العلوي أن «ميليارديرا بريطانيا يغسل بنفسه سيارته يوم الأحد، بينما سكان الخليج يحتاجون لشخص يحمل لهم كأس الماء عندما يمشون عدة أمتار .» إن العمل في قطر يؤذي كثيرا الصحة العقلية. لقد توصلت الدكتورة سهيلة الغولوم، مسؤولة قسم الطب النفسي في مستشفى حمد، بنفسها الى هذه الخلاصة. تقول الطبيبة المعنية إنها سجلت في السنوات الماضية زيادة واضحة في أعداد العمال الذين يعانون من الإكتئاب أو شذوذ التصرف. وهي تقول: «هؤلاء العمال يأتي بهم زملاؤهم أو الشرطة، التي تجدهم أحيانا ضائعين تماما
في الشوارع ». برأيها، فإن «تراكم المشاكل المالية وصعوبة العمل والظروف الحياتية الصعبة، كلها أمور تؤدي الى زيادة مستوى الضغط النفسي، Stress ، الى الحد الأعلى. وأول المعنيين هم الواصلون حديثا والذين يرون أن آمالهم بحياة أفضل تتهاوى. ربما تكون لبعضم سوابق لجهة المشاكل النفسية، غير أنهم لا يفصحون عن ذلك مخافة أن يخسروا عملهم ». تخلص الى القول إن غالبية هؤلاء
العمال يبعدون الى بلادهم حالما يخرجون من المستشفى، إذ أن «كفيلهم لا يريد الإبقاء عليهم .» يتولى فريق من العاملين الإجتماعيين متابعة هؤلاء العمال حتى يتأكد من ان معاشاتهم ستدفع لهم ويواكبهم حتى لحظة ترحيلهم.
يشكل النيباليون أول جالية أجنبية في قطر، إذ يزيد عددهم على 150 ألف، وهم في غالبيتهم العظمى من العمال، 59 بالمائة. في عام 1994 ، لم يكن عددهم يربو على ال 400 . غير أنه ما انفك يرتفع. هم يصلون الى مطار الدوحة في طائرات ممتلئة فينزلون منها تائهين، إلا أنهم سريعا ما يوضعون في حافلات تقودهم الى أماكن إقامتهم. كل فرد من هؤلاء، يكون قد دفع حوالي 2000 دولار
لشركات موجودة، في كاتماندو، مقابل عقد عمل صالح لثلاث سنوات قابل للتجديد. بالنظر الى أن المرتب الذي يحصلون عليه لا يتجاوز ال 330 دولار، فإنهم بحاجة لعام كامل حتى يوفوا ديونهم لهذه الشركات. بعضهم يتخلى عن دينه الهندوسي الأصلي، ويعتنق الإسلام، أملا في تحسين معاشه أو لينظر له على الأقل بشكل أفضل من قبل صاحب العمل. بالنظر الى تزايد عمليات تغيير الديانة،
أكثر من 2000 حالة في قطر، فقد تدخل وزير الخارجية النيبالي أوبندرا ماهاتو، طالبا من سفارة بلاده في الدوحة أن تقوم بتحقيق حول هذه الظاهرة لترى ما إذا كان العمال النيباليون تعرضوا لضغوط ليغيروا ديانتهم.
لا يوجد في قطر شيء اسمه راتب الحد الأدنى. بالمقابل، فإن حق الإضراب موجود في القانون. لكن القيود العادية صارمة تجعل من ممارسة هذا الحق مسألة مستحيلة.
في عام 2006 ، قرر عمال نيباليون يعملون في شركة غذائية الإضراب. كانوا يريدون الإحتجاج على عدد ساعات العمل، التي لا يقابلها بدل مالي، غير ان صاحب العمل رد على بادرة العمال المحتجين بأن اتهم ثلاثة منهم بالسرقة، فاقتيدوا الى مركز احتجاز قبل أن يطردوا الى بلدهم. كذلك، فإن تشكيل النقابات أمر متاح نظريا، غير أن ذلك مقصور فقط على المواطنين القطريين كما أنه خاضع لموافقة
السلطات.
يبلغ عدد ساعات العمل الأسبوعية في قطر 48 ساعة، موزعة على ستة أيام. الساعات الإضافية تدفع عادة مع تأخير. يمنع القانون تشغيل العمال في الخارج، من 15 يونيو الى 31 أغسطس، ما بين الساعة الحادية عشرة والنصف والساعة الثلثة والنصف بعد الظهر، ذلك أن حرارة الجو تتجاوز ال45 درجة، غير أن هذا البند غير معمول به دائما، في حين ان التحذيرات، التي تصدر عن وزراة العمل،
لا تتبعها في الغالب عقوبات. عندما تنفذ هذه القاعدة، فإن المتاح أمام العمال لا يتعدى وجود ملجأ من القماش لحمايتهم من قيظ الظهيرة. وهم لا يستطيعون ترك اماكن عملهم لأن نقلهم من مكان الى آخر مربوط برغبة رب العمل.
تفرض حرارة الطقس، وكبر المشاريع، العمل ليلا ونهارا. عمليات نقل العمال وخلاطات الإسمنت لا تتوقف أبدا. هكذا، فالنيبالوين يتناوبون على العمل باستمرار عند أسفل البرج قيد الإنشاء. يتم نقلهم على متن حافلات كانت في الأساس مدرسية لكنه تم تحويلها لهذا الغرض. هذه الحافلات صفراء اللون عادة، وما زالت كتابات مثل «حافلة مدرسية » موجودة عليها. بعد نهار من العمل المضني، ينقل العمال الى مخيماتهم الخاصة، حيث يقيمون في ضواحي الدوحة، يجمعون في حي
يسمى «المنطقة الصناعية .» هذا المكان ليس حفيا بشكل خاص. فالطرق غير معتنى بها، فلا أرصفة و لا خضرة. كما أنه هناك مكبات للقمامة قريبا من الطرقات. اما الإضاءة العامة فغير موجودة في المنطقة الصناعية، وعندما
طلبت يوما من سائق تاكسي أن ينقلني الى المنطقة الصناعية، نصحني بالعودة قبل حلول الظلام.
توقفنا أمام بوابة مدخل أحد هذه لمخيمات. عندما حاولنا الدخول أمسك بنا حراس موجودون هناك وافهمونا أن الدخول غير مسموح للغرباء. لم يفهموا ما الغرض من مجيء سياح الى هذا المكان، لكننا جادلناهم وأبرزنا بطاقات هوية فرنسية مما زاد الوضع غموضا بالنسبة اليهم. أخيرا، سمحوا لنا بإكمال طريقنا.
تبدو الأبنية متلاصقة ومتوازية حول أرض شاسعة. بعضها يبدو مهجورا أو ربما أنه قيد الإنشاء.
العمال لاحظوا وصولنا وراحوا يتأملوننا مندهشين. ولجنا الى الداخل. ثمة ممر مركزي. على الجانبين غرف متلاصقة، بعضها مفتوح. مررنا أمام حمام جماعي ثم أمام مطبخ كبير حيث هناك بعض العمال الذين يتحركون حول مواقد. واضح أن التجهيزات قديمة وسائل الراحة غير متوافرة. لكن المكان نظيف والعمال حريصون على الإعتناء بهذه الأماكن. بدأنا الحديث مع رجل متقدم بالسن، فدعانا الى زيارة غرفته، التي يتقاسمها مع سبعة آخرين. ثمة أربعة أسرة متراكمة فوق بعضها
البعض في الغرفة بالإضافة الى طاولة، وهذا كل أثاث الغرفة، التي تبلغ مساحتها عشرون مترا مربعا. التكييف ليس حديثا لكنه غير معطل، وكذلك جهاز التلفزيون. على الحائط، بعض الصور لنجوم من هوليوود، مما يوفر بعض الألوان ويوحي بوجود عنصر نسائي في عالم ذكوري بامتياز.
يشرح لنا الرجل المسن انه من شمال الهند وأنه يعمل ويعيش هنا منذ 28 عاما وهو يعود لرؤية زوجته وأطفاله مرة كل عامين. له امرأة وستة أطفال، وهو يرسل اليهم كل شهر القسم الأكبر من معاشه البالغ حوالي مائتي دولار في الشهر. يضيف أنه لم يحلم ابدا بقدرته على كسب هذا المبلغ لو بقي في الهند. بينما كنا نحدث الرجل، تجمهرت أمام الباب مجموعة من النيباليين، التي أثار حضورنا في هذا المكان حشريتها وربما كانت قلقة.
اعتذرنا وخرجنا، وتساءلنا: ماذا كانت تشبه قطر قبل 28 عاما؟
عقب ذلك، زرنا مخيما آخر. التنظيم تقريبا نفسه. والواقع، أننا نسمع ونقرأ الكثير حول الظروف المعيشية للعمال الأجانب في دول المنطقة. لقد وجدنا على موقع الكتروني صورا تظهر أشياء مخيفة: عشرات العمال مكدسين فوق بعضهم البعض، في غرفة وسخة تغزوها الصراصير. يشير كلام الصورة أنها أخذت في دبي.
ما رأيناه في «المدينة الصناعية » ليس بهذا الحالة الدراماتيكية، بل ربما نستطيع أن نتصور أن هؤلاء العمال، لو بقوا في بلادهم، لما توافرت لهم أسباب الراحة أكثر مما هو متوافر لهم هنا، لكن هذا لا يمنعنا من ان نعتبر أن بلدا يفتخر بأنه يتمتع بأعلى عائد للناتج الداخلي الخام، قياسا لعدد السكان، بإمكانه أن يحسن اوضاع هؤلاء العمال، الذين يبنون بأيديهم واجهة الإمارة المتلألئة. كذلك، نجد أنه
من شركات مقاولة، تفتخر بأنها تطبق أرفع المقاييس في قطاع البناء، مثل إيزو 9001 ، لا تعير انتباها للظروف المعيشية لعمالها.
لا شك أن سلطات قطر تعي الأثر السيء لوجود معسكرات عمال كهذه، على صورتها في العالم، لذا، فقد بادرت، مع كثير من الضجيج الإعلامي، الى بناء «مدينة العمال » المسماة «بروة البراحة » في المنطقة الصناعية نفسها. المشروع، الذي تقدر قيمته بمليار دولار، يهدف الى توفير «ظروف حياة معقولة » لعدة آلاف من العمال الأجانب. بحسب دفتر الشروط الرسمي، فإنه سيكون لكل عامل
ما مساحته أربعة أمتار مربعة وربع. من المخطط له أن تكون لهذه المدينة، التي يفترض أن ينتهي العمل فها في العام 2010 حدائق ومحلات ومراكز تجارية. يمكن اعتبار ذلك وسيلة لإبقاء اليد العاملة الأجنبية بعيدة عن وسط المدينة وبعيدا عن أنظار القطريين.
يمنع مئات الآلاف من العمال الجانب أن يتوجهوا يوم الجمعة، وهو يوم العطلة في البلدان المسلمة، الى المراكز التجارية. ذلك أن التواجد في هذا اليوم في المجمعات التجارية يقتصر على العائلات . يكلف الحرس بالسهر على فرض احترام هذا الأمر. لذا، فإن اليد العاملة الآسيوية المشكلة من شبان عزب، أو من الذين تركوا الزوجة والأولاد في بلدانهم، تمنع من الدخول الى المجمعات التجارية. لذا، تتشكل
تجمعات غريبة أمام مداخل هذه المراكز. مزيج من الرجال ومن جنسيات مختلفة. يرابطون أمام هذه المراكز بانتظار ان يقع نظرهم على نظر امرأة من بلدهم ليستطيعوا الإدعاء بعدها أنهم جاؤوا أزواجا من أجل أن يسمح لهم بالدخول والتمتع بواجهات المحلات. بما أن أعداد النساء قليلة، فإن حظوظ هؤلاء العمال بالدخول الى المجمعات التجارية يوم الجمعة، من الناحية الإحصائية، ضعيفة جدا.
غير أن قانون «يوم العائلات » لا يفرض تنفيذه على كل العازبين، ذلك أن النساء الأجنبيات تستطعن الدخول بمفردهن. كذلك، يسمح بالدخول للرجال الغربيين او الذين لديهم ملامح عربية، وإن كانوا بمفردهم، خصوصا إذا كانوا يلبسون الزي القطري الوطني.
كنا نذهب غالبا لوحدنا بعد ظهر يوم الجمعة لنشتري حاجياتنا. لم يزعجنا يوما أحد. وحدهم الذين يفرض عليهم إذن البقاء خارج المجمعات التجارية هم العمال الآسيويون من النيباليين والسريلانكيين والهنود والفليبينيين والأندونيسيين وغيرهم... إذا، «يوم العائلات » ليس سوى شكل خبيث من أشكال
الفصل العنصري. في المجالس الخاصة، يبرر القطريون هذا التدبير بشعور الإنزعاج الذي ينتاب الزوجات أو الأخوات عندما يجدن أن كثيرا من الرجال يراقبنهن مع شهواتهم الجامحة، بسبب حال العزوبية، التي يعيشونها. لكن من الصعب تصور ما هي المشاعر الشهوانية، التي تثيرها القطريات مع ردائهن الذي
يغطي الجسد من الرأس الى الكعب. ثم لماذا هذا التمميز بين العازبين على أساس الجنسية؟ قد يكون التساؤل مضيعة للوقت، إذ أن غالبية القطريين تعتقد أن الرجال الصغار، الذين يرتدون لباسهم الأزرق والذين يتولون بناء أبراج الدوحة، الصاعدة باتجاه السماء، هي مخلوقات لا روح لها، ويمكن أن تعود الى الحالة البدائية لدى أول فرصة. لكن يتعين علينا أن نقول إنه لو أردنا التحلي بالنزاهة الكاملة، لوجب
علينا القول إن حضور الغربيين، الذين يتسوقون يوم الجمعة يطرح بعض المشاكل. بحسب دراسة اعدها المجلس الأعلى للعائلة ونشرت في يوليو عام 2009 ، يظهر أن 80 بالمئة من العائلات القطرية تشعر ب «الإنزعاج » بسبب وجود أجانب في الأحياء السكنية. هم يأخذون عليهم أنهم لا يحترمون شهر الصوم وأنهم يستهلكون الكحول ويتناولون المخدرات. لذا، قامت جمعيات قطرية تطالب بتطبيق صارم
للقانون الخاص بسكن الأجانب في قطر، ذلك أن هناك، فعلا، قانونا بهذا المعنى يفرض على الأجانب السكن في أحياء محددة على مداخل الدوحة. إذا ما طبق هذا القانون، فيتعين على هؤلاء أن يودعوا الفيلات الفخمة المجهزة بمسابح أو أن يتركوا شققهم الفارهة المطلة على مياه الخليج.....

الفصل الخامس عشر
تسويات صغيرة مع الإسلام
الإسلام هو دين الدولة في قطر. ويشارك الأمير في الصلاة أيام الأعياد، ويموّل، عن طريق صندوق خاص، زيارات الحج التي يقوم بها رعاياه، غير القادرين على تسديد ثمن السفر إلى مكة. 80 بالمئة من السكان، ومن بينهم 100 بالمئة من القطريين، مسلمون . بالنسبة لهؤلاء، فإن ممارسة شعائر إسلام غير المذهب الوهابي ممنوعة نظرياً، واعتناق ديانة أخرى يعتبر ارتداداً، وجريمة ضد الأمّة، عقوبتها الموت.
بيد أن الواقع يشهد بعض الليونة، على الأقل مقارنة بالعربية السعودية المجاورة. فاستهلاك الكحول مثلاً ممنوع بشدة في الإسلام. وقد طلبت لجنة الأمن الغذائي القطرية جدياً سحب Red Bull Cola من السوق، وهو مشروب تبين وجود أثر لكحول فيه. ومع ذلك، بإمكان المسلمين طلب ما يشاؤون من مشروبات كحولية في بارات ومطاعم الفنادق الفخمة التي تحمل إجازة في الدوحة. لكن يمنع على
هذه المؤسسات منعاً باتاً بيع الكحول للزبائن الذين يرتدون اللباس الوطني. يبدو أن مشهد عدد من القطريين، يرتدون الدشداشة البيضاء ويخرجون وهم ثملين من الفنادق، قد برّر، على ما يبدو، اتخاذ هذا القرار، فالأمر يتعلق بالكرامة الوطنية أكثر منه باحترام تعاليم الإسلام. لذا، ما على القطريين الذين يودون تناول كأس مع أصدقاء سوى ارتداء ثياب أكثر تكتماً قبل ذلك. وقد يحدث أن يفهموا خادم البار، رغم ارتدائهم الدشداشة، أنهم يريدون مشروباً كحولياً، وذلك باستخدام رمز. مثلاً إرفاق طلبهم ل «نوع من الكولا »، بغمزة طويلة. بإمكان القطريين شرب الكحول في بيوتهم بكل بساطة.
إذ يكفي أن يرسلوا سائقهم الهندي أو الفليبيني إلى مخزن بيع الكحول الوحيد في العاصمة، المخصص للمقيمين غير المسلمين.
يمكن الحصول على إذن لبيع الخمر بعد تقديم إذن من الكفيل ) sponsor (، ولقاء تسديد كفالة ألف ريال ) 200 يورو(. كما يجب حيازة دخل من مستوى عال، مما يستبعد اليد العاملة غير المؤهلة. يمكن لعمال الورشات التوجه إلى السوق السوداء حيث يمكن إيجاد ويسكي وفودكا، لهما ذات الطعم. لكن البائع والشاري على السواء، يتعرضان في هذه الحال إلى خطر الترحيل الفوري إذا تم ضبطهما. في الحالات، وهي للأسف غير نادرة، يقوم بعض العمال بشرب العطور بعد مزجها بالبهارات.
في جميع الحالات، حذار من قيادة السيارة بعد شرب ولو نقطة واحدة من الكحول. فالحد الأدنى المسموح به هو صفر غرام من الكحول في ليتر من الدم.
 -1 بالنسبة للآخرين، فإن ممارسة شعائر دياناتهم مسموحة. ينتمي المسيحيون، ويبلغ عددهم 150 ألف شخص، إلى عشرات الجنسيات، ويتمتعون حتى بمكان عبادة جرى افتتاحه عام 2008 : كنيسة نوتردام الوردية ) Notre-Dame du Rozaire (، وهي الأولى من نوعها في أحد دول الخليج. وكان لا بد من سنوات من المفاوضات لكي يتم منح إذن ببناء الكنيسة، ولكن بشرط ألا يكون لها قبة
جرس، وألا يشاهد أي صليب من الخارج. فأي نوع من التبشير ممنوع بشدة، وقد تم ترحيل نحو 15 مسيحياً في السنوات الأخيرة بعد اتهامهم بنشاط تبشيري.__

يعرض المخالفون أنفسهم لغرامة عالية، أو لعقوبة سجن، ولبضعة عشرات من الجلدات إذا كانوا مسلمين. فالجلد لا يزال يشكل جزءاً من أدوات القمع حين يكون المذنب مسلماً، واعترف بسرقة، أو بزنا، أو بالكفر، أو بالإدمان على الكحول. أما الرجم وقطع الأعضاء، فلم يعد تطبيقهما وارداً، حتى وإن لم يتم إلغاؤهما رسمياً.
العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج غير مشروعة، رسمياً، في قطر، وبالدرجة الأولى بالنسبة للمسلمين. أما في الواقع، فإن غالبية الأجانب يشعرون بحرية القيام بما يشاؤون في حجرات نومهم.
أما العمال الفقراء الذين لا يتمتعون بمثل هذا الترف، فقد حكم عليهم بالتعفف. لكن القطريين لا يحرمون أنفسهم من شيء. وغالباً ما تتم العلاقات غير الزوجية في الفندق، الذي يفضّل أن يكون فاخراً. وقد صارحنا موظفون في قرية الشرق ) Sharq Village (، وهو فندق فخم تتوزع أجنحته على 14 بيتاً تقليدياً، أن بعض الغرف يتم تنظيفها خمس أو ست مرات يومياً في عطلة نهاية الأسبوع،
حيث يتقاسم الرجال والنساء إيجار الغرفة، فيما تغض إدارة الفندق نظرها بطبيعة الحال. فقط خادمات الغرف ينزعجن من ازدياد عملهن، لخدمة زبائن بخلاء غالباً.
لكن التسامح في ما يتعلق بالشؤون الأخلاقية يصل إلى حدوده غير المقبولة حين يجعل أي تصرف غير لائق، في الأماكن العامة. فإذا كانت الأجنبية حرة في ارتداء ما تشاء، وغير ملزمة، كما في العربية السعودية، بارتداء الحجاب، فإن ارتداء ثوب مفتوح كثيراً في جهة الصدر، أو تنورة قصيرة جداً، يتسبب بتوجيه تنبيه لها. وإذا كانت المرأة أسيوية، قد تتعرض للسوق إلى مخفر الشرطة لتلقينها درساً في الأخلاق.
مثلية الجنس ممنوعة في الإسلام، وقطر مدرجة على لائحة الجمعية الدولية لمثليي الجنس، كدولة معادية لمثليي الجنس. يعاقب قانون العقوبات القطري أي مجامعة مخالفة للطبيعة، بين راشدين، رجالاً أو نساء، بالسجن لمدة أقصاها 7 سنوات. الأحكام نادرة، ولكن ترحيل عمال مهاجرين لأسباب من هذا النوع يتم بشكل متكرر نسبياً. وقد أصدر الداعية المشهور، الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد المقربين من الأمير، فتوى عام 2004 ، مخصصة ل »الانحرافات الجنسية ». فهو يعتبر أن عقوبة مثلية الجنس هي الموت رجماً. وقد كرر هذا الحكم في السنة التالية، حين كشفت بعض الصحف عن وجود ولي العهد في علبة ليلية في لندن مخصصة للوطيين.
عام 2009 ، تحدثت وسائل إعلام قطر في عدة مناسبات، عن الخطر الذي تشكّله على المجتمع ظاهرة «الصبيان المخنثين les garçonnes( » (. وقد اعتبر عدة دعاة أنها «مؤشر لغزو الأفكار الغربية الهدامة » التي تنقل بواسطة الانترنت. وكرّست وزارة الشؤون الاجتماعية ندوة حول هذه «المشكلة المؤلمة .»
وأعلن نائب رئيس مؤسسة قطر، سيف الهاجري، وهو أحد مساعدي الشيخة موزة، إنشاء مركز اجتماعي لمعالجة السلوك المنحرف، برعاية السيدة الأولى، «للتخلص من الانحرافات الجنسية التي تنقلها العولمة .»
قبل سنوات معدودة، كان من غير المسموح في قطر أن يشبك رجل وامرأة يديهما في الأماكن العامة، حتى لو كانا متزوجين. أما اليوم، فمن غير النادر مشاهدة قطري يمسك بيد زوجته... أو إحدى زوجاته، في حين تتبعهما الزوجة الباقيات على بعد بضع خطوات خلفهما. إن تعدد الزوجات مسموح في قطر، حيث للأمير نفسه ثلاث زوجات. بالنسبة للشيخ يوسف القرضاوي، فإن أفضل تبرير لهذه الممارسة هو أن «شهية الرجال الجنسية قاهرة »، في حين أن شهية النساء الجنسية أقل إلحاحاً. يؤكد الداعية: «حتى لدى الحيوانات، حاجة الإناث للجماع هي أقل من حاجة الذكور. هذا الأمر ينطبق على البقرة، والجاموسة، أو العنزة. فهن يرغبن بالفحل، أو التيس، أو الثور، فقط حين تردن الإنجاب ». كما أن النساء
تحضن «خلال أكثر من عشرة أيام أحياناً ». وأخيراً، فإن تعدد الزوجات هو أفضل من الزنا الرائج في الغرب.
وهو محدود، باعتبار أنه ليس بإمكان الرجل الزواج «سوى » من أربع نساء. وحين سأل صحافي بوقاحة الشيخة موزة يوماً عن شعورها حول الزيجة الثالثة للأمير في نهاية الثمانينات، اكتفت بابتسامة، وبعد لحظة من الصمت، قلبت الموقف قائلة: «إنه يحبني أكثر مما يمكنني أن أحبه يوماً ...»
الشيخ يوسف القرضاوي شخصية لا يمكن تجاوزها في الدوحة. فهو في الثالثة والثمانين من العمر، ويرأس الاتحاد الدولي للعلماء، وتم إبعاده من وطنه مصر قبل 40 سنة، بسبب انتمائه إلى منظمة الإخوان المسلمين الدينية. وقد اختار قطر أرضاً للمنفى، حيث مارس التدريس في الجامعة، وغالباً ما تم استخدامه حجة لتمرير إصلاحات الأمير. حين يدين السعوديون تحررية قطر مثلاً، التي تقوض، في
رأيهم، قيم الإسلام، يهب الشيخ دائماً للدفاع عن الوطن الذي احتضنه. في المقابل، يعتبر القرضاوي بطلاً وطنياً . ففي يونيو 2009 ، شاهدت نخبة الدوحة، برفقة المعني الرئيسي، العرض الأول لمسرحية «رجل وأمة »، التي تروي سيرة حياة يوسف القرضاوي، والتي كانت «برهان عرفان بالجميل من جانب قطر لهذا العالم البارز »، وفق وزير الثقافة.
ألّف رجل الدين نحو مئة كتاب، ترجمت إلى عدة لغات. شعبيته المذهلة في مجمل العالم الإسلامي تعود إلى مهارته الكبيرة في استخدام وسائل الإعلام الحديثة. فقد شارك قبل عشر سنوات، في إنشاء موقع إسلام أون لاين الالكتروني، الذي يحاول الإجابة على تساؤلات الحياة اليومية، في مزيج من الفتاوى والنصائح العملية. مثل ما العمل إذا رن جرس الهاتف النقّال أثناء الصلاة؟ هل يمكن للمصاب بمرض السكري تلقي حقنة الأنسولين إذا كان صائماً؟ هل يحق للنساء ارتداء لباس السباحة
الإسلامي؟ ويجري أكثر من ثلاثة ملايين شخص اتصالات عن طريق الانترنت شهرياً، بهذا الموقع طلباً لإجابات. ويمكنهم حتى إرسال رسالة إلكترونية إلى مفتيهم المفضل، طلباً لفتوى على الانترنت.
يوسف القرضاوي هو أيضاً أحد الوجوه المعروفة جداً على قناة الجزيرة، حيث يقوم بمداخلات لحل المعضلات الأشد صعوبة للمشاهدين في برنامج «الشريعة والحياة ». وكل أسبوع، تتلقى القناة لتلفزيونية ألوف الرسائل الموجهة إليه، والواردة من مختلف أنحاء العالم.
بفضل الانترنت والتلفزيون العامل على الأقمار الاصطناعية، تؤثر أحكام الشيخ على مئات ملايين المسلمين، من السنة والشيعة على السواء، في وقت يعتبر البعض أنه لا يمكن التشكيك في صحة آرائه. لكن الداعية شخصية معقدة، وأحياناً متناقضة. ويعتبره أنصاره أحد أهم مسؤولي الإسلام المسمّى إصلاحياً، في حين يعتبره أعداؤه راديكالياً خطيراً. وفيما يتعلق بحرية المرأة أو الجنس، يعتبر القرضاوي متساهلاً نوعاً ما، إذ يعتبر أن القرآن لا يمنح الأهل حق تزويج بناتهم من دون موافقتهن،
وأن من حق النساء طلب الطلاق شرعاً، وأن لحس العضو التناسلي ) fellation ( لا يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس. لكن في المقابل، أثار سجالاً عام 2009 ، حين اعتبر اللجوء إلى العمليات الانتحارية أمراً مشروعاً، وحين أكد أن إبادة اليهود على يد هتلر كانت عقوبة سماوية.
إن صلات يوسف القرضاوي مع حركة حماس لا تخفى على أحد، وتسببت برفض منحه سمة دخول إلى الولايات المتحدة. يقول مسؤول في قوات الأمن الإسرائيلية أن القرضاوي ساعد حماس بحدود 21 مليون دولار. في الواقع، تتلقى جمعيته، «البلاغ »، ومقرها في الدوحة، ملايين الدولارات من محسنين أسخياء. وفي أحيان، تأخذ أحكام هذا المسؤول الروحي منحى تجارياً. ففي عام 2009 ، تم السماح لشركة خطوط هاتف نقال جديدة بالعمل على الأراضي القطرية، حيث تسود شركة كيوتيل بلا منازع، فأصدر الشيخ علي السالوس، من جامعة الشريعة، فتوى ضد الاشتراك في شركة فودافون، لكن الشيخ يوسف القرضاوي تدخل، وأصدر فتوى مضادة تؤكد أن فودافون محلّلة. التوافق وارد أحياناً بين الأعمال التجارية والدين.__

الفصل السادس عشر
جريمة تطاول على الجلالة lèse-Majesté
فيما اقترب تاريخ الثالث من مايو، وأخذت تتبخر، على ما يبدو، وعود السيدة الأولى حول توقيع المعاهدة الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية، أو إنشاء جمعية للصحافيين، كنا هدفاً لحملة تشنيع تشتد ضراوتها يوماً بعد يوم في أهم الصحف الناطقة بالعربية في قطر. فقد نشر مسؤول في جريدة الشرق مقالة على صفحتين بعنوان «روبير مينار، الخلاعي »، يشير فيه إلى إدانة المركز لمشروع فرض رقابة على مواقع إلكترونية في الإمارات العربية المتحدة. فقد وضعت سلطة ضبط
الاتصالات في هذه الدولة لائحة تضم 500 كلمة ينوي رئيس شرطتها اعتمادها لإقامة «مصفاة » على الانترنت، أكدوا لنا أنها ستستهدف فقط المواقع الخلاعية أو تلك التي تسيء إلى الإسلام. لكننا كنا نعرف جيداً طبيعة الحجج الأخلاقية التي يستخدمها دائماً أعداء حرية التعبير. فطلبنا نشر لائحة الكلمات هذه، لا أكثر ولا أقل. في الفترة ذاتها تقريباً، كشف عدد من مستخدمي الانترنت الميول السادية لأحد أعضاء العائلة الحاكمة في أو ظبي. فقد ظهر الشيخ عيسى بن زايد آل نهيان
في تسجيل فيديو، تم تصويره بناء على طلبه، وهو يقوم بتعذيب تاجر أفغاني، بتواطؤ من شرطي بزيه الرسمي. كانت هذه القضية مزعجة للسلطات الإماراتية، ومن السهل تصور رغبتهم في السيطرة على شبكة الانترنت نتيجة هذه الحادثة. لكن الصحافي القطري لم يأخذ في الاعتبار أياً من حججنا، وقام، عن سوء نية خالصة، باستنتاج أن أجندتنا السرية هي الترويج للدعارة في صفوف الشبيبة
المسلمة.
طلبنا نشر تصويب للحقائق بموجب حقنا في الرد. لكن الصحافي ذاته أعاد الكرة بعد يومين، حيث كتب أن همنا الأول هو نهب ثروات وطنه، وأن المنح التي يقدمها المركز لا تصل أبداً إلى أصحابها.
لقد تم اتهامنا هذه المرة باختلاس مال عام. طبعاً، نحن قادرون على تبرير كل ريال تم صرفه، ليس فقط بواسطة إيصالات، ولكن أيضاً عن طريق شهادات، مؤثرة في غالب الأحيان، يعرب خلالها صحافيون عن امتنانهم لفريق المركز وللسلطات القطرية. كل النفقات كانت شفافة. ففي ظرف بضعة شهور، تمكن المركز من صرف 254 منحة تصل قيمتها إلى 709 آلاف دولار. وأحياناً كانت هذه المساعدات تحقق معجزة، كما حدث في غينيا بيساو، حيث كادت جميع الصحف تحتجب بسبب ندرة الورق. فبفضل شراء ألفي ماعون ورق من السنغال المجاورة، تمكن سكان هذه الدولة من قراءة صحافة متعددة.
كان فريق المركز يقتصر على عشرة أشخاص، ينتمون إلى دول متنوعة، كالمغرب، والجزائر، والهند، وإيران، ومصر، وطبعاً قطر وفرنسا. المطلوب كان إنشاء منظمة جديدة من الألف إلى الياء، وتجهيز مكاتبها وصولاً إلى وصلها بالانترنت، مروراً بإنشاء بنك معلومات فريد من نوعه في العالم، حول أكثر من__
 ألفي صحافي قتلوا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحقيق أفلام مكرسة لحرية الصحافة، وذلك بمشاركة صحافيين بلا حدود وبلدية مدينة بايو ) Bayeux ( التي تضم النصب التذكاري للصحافيين.
كان تسديد ثمن كل عمل بحسب قيمته الفعلية، يشكل معركة يومية. فكلما كنا نتوجه إلى منتج، معلنين أننا موجودون في إحدى إمارات الخليج، كنا نشاهد على الفور دولارات ترتسم في عيون محاورينا.
على مر الأسابيع، تعرضنا لحملات أخرى من جانب صحافة قطرية مسيّرة مباشرة من جماعة الشيخ حمد بن ثامر، رئيس مجلس إدارتنا، وألد أعدائنا. فهم يأخذون علينا خصوصاً كوننا انتقدنا الرئيس السوداني في الدوحة، في مناسبة قمة للجامعة العربية شارك فيها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في 30 و 31 مارس 2009 . فقد صدرت في حق عمر البشير مذكرة اعتقال من جانب محكمة
الجزاء الدولية بسبب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبدا لنا أن استقباله بحفاوة بالغة في قطر يشكّل ضربة موجهة إلى العدالة الدولية. من غير الممكن الإشادة بموقف مدعي عام محكمة الجزاء الدولية، حين يتعلق الأمر بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، والتنديد به حين يتعلق الأمر بدولة صديقة. إن الدول العربية تمارس بذلك «الكيل بمكيالين »، الذي غالباً ما تشتكي منه حين يصدر من حانب الغربيين إزاء فلسطين. لقد صفقت السلطات القطرية حين اشتكى مركز الدوحة
إلى محكمة الجزاء الدولية من الجرائم المرتكبة في غزة بحق وسائل إعلام وصحافيين خلال عملية الرصاص المسكوب في مطلع عام 2009 . وها هي تستقبل بحفاوة رجلاً يشتبه بمسؤوليته في مجازر ذهب ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص في دارفور!
حين طالبنا بتطبيق العدالة الدولية على السودان، كما على إسرائيل، كنا ببساطة أوفياء لقناعاتنا ومنسجمين مع مواقفنا المعلنة. لكن تمت ترجمة تصريحاتنا فوراً من جانب البعض بكونها تدخلاً لا يغتفر في دبلوماسية الإمارة، التي لا يشكل الترابط المنطقي أهم خصائصها. حين اخترنا مع البيان الذي نشرناه على الانترنت، صورة للأمير مستقبلاً عمر البشير بعناق حار عند نزوله من الطائرة، اعتبر ذلك جريمة تطاول على الجلالة! في اليوم التالي، نقلت ونوّهت كل من نيويورك تايمز، وفايننشال تايمز بموقفنا. لكن القطريين اعتبروا أننا تجاوزنا الحدود، وبالتالي يجب أن ندفع الثمن. وقد صارحتني الشيخة موزة نفسها بعد بضعة أيام بحرجها، فيما تذمّر الرئيس الليبي معمر القذافي، على هامش القمة، من بيانات المركز، لكنها تمكنت من مواجهة الأمر. بيد أنها قالت لي: «لكن الجميع يتساءل حول نواياكم حين توجهون اتهامكم مباشرة إلى الأمير ». شعرت يومها بأن المحسنة علينا لن تتردد كثيراً حين تأتي ساعة الخيار بين قناعاتها ومصالحها، إن لم يكن استمرار حياتها.
ها قد أتى الثالث من مايو. تم تقديم المركز بكونه منظّم اليوم الدولي التاسع عشر لحرية الصحافة.
في الواقع، اقتصر دورنا على طرح أسماء على اليونسكو لشخصيات نود أن تشارك في النقاشات التي ستدور لمدة يومين في أحد صالونات فندق إنتركونتيننتال في الدوحة. وقد كنا وراء قدوم رسّامي جمعية كارتونينغ من أجل السلام ) Cartooning for peace (، الذين كنا نعتمد كثيراً على وجودهم وعلى عرضهم عشرين من رسومهم الكاريكاتورية في باحة الفندق، وقد جاء جان بلانتو، الذي تعود إليه مبادرة إنشاء هذه الجمعية، بصحبة عدد من ألمع رسامي الصحافة في العالم: الفلسطيني بهاء بخاري، والأميركي جيف دانزيغر، والجزائري علي ديلم، واللبناني ستافرو، والفرنسي- البوركينابي داميان غليز، وميشال كيشكا، المولود في بلجيكا، والمقيم في إسرائيل منذ ثلاثين عاماً. وهذا الأخير شاركني، الى جانب محام مصري متخصص في الدفاع عن حرية التعبير في بلاده، ومدرّسة في
جامعة أوكسفورد، وأحد كبار موظفي اليونسكو، في طاولة مستديرة مكرّسة لدور وسائل الإعلام في الحوار بين الأديان. لقد تم التطرق خلال النقاش إلى مسائل الكفر، وحق الانتقاد، والرسوم الساخرة حول الرسول محمد، والفرق بين احترام المؤمنين واحترام المعتقدات. أود التذكير هنا بأن القضاء الفرنسي اعترف عام 2006 بحق الصحف في إعادة نشر رسوم الكاريكاتور الدنمركية الشهيرة التي
أثارت غضب بعض الأئمة، وأدت إلى أعمال عنف يذكرها الجميع. وقد رفع كل من اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، ومسجد باريس الكبير دعوى قضائية ضد مجلة شارلي هيبدو، ومديرها فيليب فال، لفظت المحكمة فيها حكماً بالبراءة، أكدته محكمة الاستئناف في ما بعد.
كان ميشيل كيشكا مؤثراً جداً حين تحدث عن أبيه، الذي نجا من المحرقة اليهودية. أو حين تحدث عن المباراة الدولية لرسوم الكاريكاتور المعادية للسامية التي نظمها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عام 2006 . في نهاية مداخلته، أعطيت الكلمة لأحد المشاركين في الصالة، وكان رجلاً طويل القامة يضع نظارتين، ويحمل شارباً، قدّم نفسه بالانكليزية بهدوء: «إسمي فليمينغ روز، وأنا رئيس تحرير الصحيفة الدنمركية ييلاندز- بوستن، وأنا الذي طلب من عدة رسامين رسم محمد كما يرونه.
لم أطلب منهم أن يسخروا ». كنت على جهل تام بوجوده في الدوحة. وحين توجهت إلى الصالة، كنت أتوقع أن تكون ردود الفعل عاتية. وبدلاً من ذلك، جلس فليمينغ روز على مقعده بهدوء، في حين لم يرد أحد عليه. هل تطور التسامح إلى هذا الحد منذ أحداث عام 2006 الرهيبة التي شهدت مقتل 50 شخصاً؟ هل غرق الحاضرون في سبات إلى حد لم يدركوا ما حدث؟ بعد النقاش، تحدثت قليلاً مع
فليمينغ روز. قال إنه يتحمل كلياً مسؤولية نشر هذه الرسوم، التي أسالت الكثير من الحبر... ومن الدم. قال أنه مستعد لتكرار ذلك غداً إذا تطلب الأمر، حتى ذاك الرسم الذي تخرج فيه قنبلة من عمامة الرسول. قال لي: «حين أكون في مسجد، أحترم الطابع المقدس لهذا المكان. ولكن إذا شاءت ديانة تحديد حرية تعبيري، أين هو الاحترام؟ لن يكون هناك سوى خضوع في هذه الحال ». تصافخنا في
وقت كان فيه المدعوون يتزاحمون للوصول إلى طاولة الطعام. وبعدها لم أشاهده.
مر اليومان اللذان نظمتهما اليونسكو من دون حادث، أو بالكاد. فكما الأمر غالباً في مثل هذه التظاهرات، تناوب الخطباء لطرح ما يعتبرونه الصواب حول الحرية، وحقوق الإنسان، في حين كانوا يفكّرون بالحلوى التي سيتم تقديمها عند انتهاء الجلسة. وكان كل منهم يحرص على قول ما يريد الجميع سماعه. ففي الدوحة، بشكل خاص، من اللائق انتقاد نقص موضوعية الصحافة الغربية إزاء
الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الأمر الذي يضمن الحصول على التصفيق الحار.
حين عرض علي مسؤولو اليونسكو مشروع البيان النهائي قبل تلاوته في الجلسة العامة، لاحظت أن النص الذي وافقت عليه في وقت سابق قد أفرغ من محتواه حول نقطة أساسية، في نظرنا: الضمان الذي لا غنى عنه لحريات التعبير، والفكر، والمعتقد والدين. وبدا لي ضرورياً أن أوضح أن هذه الحريات لا يمكن أن يتم فرض قيود عليها باسم انها تشكل نوعا من «التشهير بالأديان ». لم يكن
الأمر نزوة لفظية من جانبي. فقبل أسابيع، تمكنت منظمة المؤتمر الإسلامي من تمرير قرار، في إطار الدورة العاشرة لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، يعتبر الكفر جرماً، وهو مفهوم غير مبرر في القانون الدولي، ويشكل تفسيراً خاطئاً وخطيراً لحقوق الإنسان.
أصاب الحرج محاوري التابعين لمنظمة اليونسكو، وحاولوا إقناعي بأن الأساسي قد تم صونه، وأن نسختي كفيلة بإثارة غضب عارم بين المشاركين. ففي نظرهم، ان «توافق سيء أفضل من مشادة سليمة .»
البيان النهائي الذي اختتم اليوم العالمي لحرية الصحافة كان للأسف، نموذجاً للثرثرة والماء الفاتر.
الفصل السابع عشر
«هذا الرأس يجب أن يتدحرج في الرمل...
انفجرت العاصفة بعد يومين. فقد نشرت صحيفة الوطن مقالة حول وجود فليمينغ روز في الدوحة، مؤكدة أن المركز قد دعا «الشيطان بذاته ». وتناقلت عدة صحف أخرى النبأ، طبعاً من دون التحقق منه. لم يستغرب أي من هذه الصحف ان السلطات القطرية هي التي منحت سمة دخول إلى البلاد لهذا «الشيطان ». وأدت حلقات النقاش على الانترنت إلى تضخيم السجال بسرعة. فقد أكد مسلمون خلال هذه الندوات أن مركز الدوحة ارتكب خطأ لا يغتفر، وأن الاستفزاز قد طال، وأنه
يجب ترحيلي على الفور مع بقية فريقي، ودعا بعض الدعاة إلى تنظيم تجمّع يوم الجمعة التالي للمطالبة بإقفال المركز. تلقينا سيلاً من الرسائل الإلكترونية على هواتفنا النقالة، تتهمنا بالإساءة إلى الرسول، وتعدنا بالعقاب المناسب. كما نشرت صحيفة محلية رسماً يصوّرني، مع التعليق التالي: «هذا الرأس يجب أن يتدحرج في الرمل ...»
إنني أعلم جيداً إلى أي مدى يمكن أن يؤدي مثل هذا الوضع، فطلبت من اليونسكو أن تنشر بياناً يوضح الحقيقة. فالمركز ليس فقط غير مسؤول عن دعوة فليمينغ روز، بل لم نكن على علم بوجوده في الدوحة في 3 مايو. في الواقع، إن المجموعة الصحافية الدنمركية JP Politikens/Hus ، الذي تنتمي إليها صحيفة Jyllands-Posten ، كان يموّل منذ سنوات جائزة اليونسكو الممنوحة في مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة. بهذه الصفة، تقوم المنظمة الدولية بدعوة عدة مسؤولين من هذه المجموعة للمشاركة في هذا الحدث في الثالث من مايو. لو أنهم استشارونني حول استنساب دعوة رئيس تحرير الصحيفة التي نشرت الرسوم الكاريكاتورية حول الرسول إلى الدوحة، لكنت قد ترددت، لكن بما أن
الحوار الذي تم تنظيمه هذه السنة كان عنوانه «الحوار بين الحضارات »، لم يكن مستغرباً أن يشارك فليمينغ روز فيه. على كل حال، لم يسألني أحد عن رأيي. بالمقابل، فإن اليونسكو دأبت على جبنها المعتاد ورفضت تحمل مسؤوليتها، وتركتنا في خط المواجهة الأول.
بطبيعة الحال، هذه الحملة الجديدة، الأشد قسوة، لكونها تقع في المجال الديني، المليء بالألغام، لم تحصل بمحض الصدفة. فعدد من هؤلاء الصحافيين أنفسهم، الذين تظاهروا بالاشمئزاز من مجيء «الشيطان » إلى الأرض القطرية، كانوا حاضرين في الصالة حين قام فليمينغ روز لإلقاء كلمته. ولم يحرّكوا ساكناً، وشاركوه في تناول الحلوى في فندق إنتركونتيننتال، نحن نعلم جيداً أن استنكارهم
المتأخر كان يجري تحريكه عن بعد، وأن أعداءنا كانوا مصممين على التخلص منا.
التوصل إلى إغلاق مركزنا، أو طردي، مسألتان غير واقعيتين. لأن هذا الأمر يشكّل دعاية سيئة لقطر التي تعتمد علينا لإرساء صورتها كدولة تهتم بحقوق الإنسان. أقيس يوماً بعد يوم حجم التلاعب الذي تعرضنا له. لا أزال أؤمن بحسن نوايا الشيخة موزة، ولكنني أتكهن بأنها هي نفسها ضحية تلاعب حين تقدم للعالم، بثوبها الأخضر الرائع، صورة توهم بأن قطر دولة تقدمية. فهي الواجهة
البشوشة والحديثة لنظام إقطاعي. هي «أفضل دعاية للدولة في الخارج »، على حد تعبير فرنسي يقيم في الدوحة منذ زمن طويل، وتم توظيفه طبيب عظم خاص لمعالجة شقيق الأمير، وأصبح أفضل مراقب للمناورات والصراعات على السلطة التي كنا ألعوبة فيها. يوضح هذا المراقب أن «الشيخة موزة لا تتمتع هنا بالشعبية التي يريدون الإيحاء بها، فالكثيرون يعتبرون أنها تقوم بأكثر مما يجب،
وأن الإصلاحات تهدد رغد حياتهم. فهم سيكونون خاسرين أكثر منه رابحين. والأمير مضطر إلى أخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ أن انقلاباً من شأنه أن يحدث بسرعة... .» لم يعد بوسع الأميرة مساعدتنا. وهي تتابع من قصرها نزاع المركز. ولم تعد ترد على نداءاتنا.
بما أنه لم يكن بمقدورهم إجبارنا على الرحيل، ونظراً لكوننا قد تمكنّا حتى الآن من المقاومة، لم يعد أمامهم سوى خنقنا. لقد استطعنا التحمل نحو شهرين على مخزون ميزانية العام الفائت، بحيث تابعنا بجهد إرسال المال إلى الذين التمسوا معونتنا، في النيجر، وفي إيران، أو في الصومال. لكن الميزانية التي كان مقرراً وصولها في أول أبريل لم تصل بعد. فرئيس مجلس إدارتنا لم يوقّع الوثائق.
وكانت المفاجأة صباح أحد الأيام: فقد وصل نصف الموازنة إلى الحساب المصرفي. وكان التحويل بأمر من وزارة المال. كان صعباً علينا أن نصدّق ذلك. لكن سعادتنا لم تدم طويلاً. فبعد ساعات، تم إفراغ الحساب المصرفي، بأمر من الوزارة ذاتها!
كنا جميعاً منهكين. ففي الدوحة باتوا يعتبروننا موبوئين. وعمدت غالبية الفرنسيين المقيمين هنا إلى تجنبنا بعناية، خوفاً على مصالحهم. أما سفير فرنسا، جيل بونو، الذي لم أكن آمل منه أي دعم، كان يدعوني دائما، حين كنت مقبولاً، إلى السهرات التي كان يقيمها، لكنه يؤكد الآن لمحاوريه أنني «مهرّج ». لقد حان وقت التخلي )عن هذه المهمة(.

الفصل الثامن عشر
قاذف الحذاء نجماً عالمياً
وضع عدونا اللدود، الشيخ حمد بن ثامر، شروطاً جديدة. إنها سخيفة. فهو يطلب منا تعهداً قطعياً بعدم التماس لجوء إلى الدوحة لصحافيين مضطهدين في دول صديقة.
لقد مضت شهور دون أن نتمكن من أن نؤوي أي صحافي في خطر. ولكنه مصرّ على إذلالنا وجعلنا نتخلى عن قيمنا.
لقد أمضت الصحافية من أصل إيراني، روكسانا صابري، مئة يوم في إحدى زنزانات سجن إيفين في طهران، بعد اعتقالها بسبب شرائها زجاجة نبيذ. وتم اتهامها بالتجسس، وحوكمت في ربع ساعة، وصدر في حقها حكم أولي بالسجن ثماني سنوات. لحسن الحظ، أدت التعبئة الدولية إلى تحريرها
بعد محاكمة استئناف، شكلت مهزلة جديدة. بطبيعة الحال، قام المركز بتعبئة من أجلها، ومن أجل صحافيين آخرين مسجونين في جمهورية إيران الإسلامية. لقد وجهنا رسالة مفتوحة إلى المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، طالبنا فيها بإطلاق سراح روكسانا صابري، لافتين إلى أن «احتجاز الصحافية هو خرق لمعاهدة الأمم المتحدة الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية التي وقعت
عليها إيران ». كما كتبنا إلى خافيير سولانا، مسؤول الدبلوماسية الأوروبية.
أخيراً، وبما إن مقرنا في قطر، التمسنا تدخل الأمير لدى السلطات الإيرانية. فبالرغم من استخدام الإيرانيين هذه القضية في صراعهم مع الولايات المتحدة، كان من الضروري القيام بهذه المحاولة.
لكن التماسنا كان بلا نتيجة. فقطر لا تنوي التدخل، تجنباً لإزعاج أحمدي نجاد، خصوصاً قبل أسابيع معدودة من انتخابات الرئاسة. فإيران شريك شديد الحساسية، والقطريون يجهدون لتجنب إثارة سخطه. ففي عام 2008 ، أكد رئيس الوزراء، الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، خلال زيارة لطهران، أن »موقف قطر من المسألة النووية يتطابق مع موقف جمهورية إيران الإسلامية .»
بعد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 12 يونيو 2009 ، سارعت السلطات القطرية إلى تهنئته، في وقت كانت كل المؤشرات تؤكد فيه أن الانتخابات كانت ملفقة.وسنحت لنا فرصة إبداء ملاحظتنا في هذا الشأن إلى الشيخة موزة. لقد قالت لي بجدية: «ماذا تعلم من هذا الأمر؟ ما الذي يثبت أن هذه الانتخابات لم تكن قانونية وديمقراطية؟ ». ليس هناك أصم أكبر من ذاك الذي لا يريد أن يسمع.
باستثنائنا، وباستثناء صديقنا ريتشارد روث، عميد معهد ميديل للصحافة في قطر، لم يحرك أحد في الدوحة ساكناً لنجدة روكسانا صابري. فريتشارد تعرّف على هذه الشابة قبل عشر سنوات، حين كانت تدرس في جامعة نورثويسترن يونيفرسيتي اوف إيفانستون ) Northwestern University of Evanston (، في ولاية إيلينوا. وقد كتب بدوره إلى الأمير، دون نتيجة.
إن مساعدة الصحافيين ضحايا الاضطهاد في إيران، أو في ليبيا، ليس أمراً «لائقاً دبلوماسياً .»

الفصل التاسع عشر
«هذه الدولة عمرها بالكاد 40 عاماً... »
القرار بات محسوماً، وكان العديدون يسخرون قائلين أن هذه النهاية كانت متوقعة.هؤلاء أنفسهم الذين اتهموني قبل شهور، ببيع نفسي لقاء حفنة من البترودولار. كانوا يتصورون إنني سأمضي الأيام مستمتعاً على حافة حوض السباحة، في قصر فاخر على أطراف الصحراء، لاعباً دور الكفيل في
مسرحية الدفاع عن حرية التعبير. إنهم يجهلونني، وأعتقد أن هذا الأمر لم يكن في ذهن الشيخة موزة خلال حديثنا الأول، فهي اتكلت علينا لكي نقول بصوت عال وقوي عدداً من الحقائق، وهي ذاتها لم تكن تنقصها الشجاعة. فهي غالباً ما كانت تتجاوز قناعات، وأحياناً، معتقدات مواطنيها، وكانت على جرأة أكيدة حين أكدت يوماً أن كلمة «العلم » قد وردت 750 مرة في القرآن. أكثر من ذلك، كانت تدرك جيداً طبيعة الأطراف التي تتعامل معها، حين عهدت إلي بمسؤولية إنشاء وإدارة مركز الدوحة.
فهي كانت تعرف خصالي وعيوبي، فأنا شخص عنيد، ولا أؤمن بأن الصبر هو أم الحكمة، لاسيما في النضال الذي أقوم به، منذ ربع قرن.
بعد اتخاذ القرار بحزم أمتعتنا، اتصلت بكل أعضاء مجلس الإدارة لإبلاغهم بالوضع. كانوا 12 ، من بينهم الكاتب باولو كويلو، والصحافي باتريك بوافر دارفور، ومدير مركز الدراسات حول الشرق المعاصر في باريس، برهان غليون، ووزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس، ودومينيك دوفيلبان.
أوضحت لهذا الأخير أيضاً الوضع المالي الذي قادنا إليه استشراء أعدائنا. اقترح رئيس الحكومة السابق أن أخبر الشيخة موزة بهذا الأمر. واتصل بي في اليوم التالي ليعلمني أن صاحبة السمو تريد ملاقاتي عند مجيئها إلى باريس بعد أسبوعين، في إطار زيارة دولة تقوم بها.
قبل أيام من مغادرتنا الدوحة، تناولنا العشاء للمرة الأخيرة في المطعم الصغير، قرب ميناء الصيد، برفقة صديق فرنسي، يعمل في الأمم المتحدة، ومكلفاً افتتاح مكتب دائم للمنظمة في قطر. وحين أبلغناه بقرار رحيلنا، أعرب لنا عن أسفه لأنه كان يأمل في القيام بأعمال كبيرة معنا، وقال أن عدولنا مؤسف. أجبته بأنه لم يكن أمامنا من خيار آخر. «فقد تحملنا حملات التشهير، وأبشع الاتهامات، وعملنا طيلة شهور في مكتب ليس هو بمكتب، في حين لم يحصل عدة أعضاء من الفريق على
بطاقة إقامة. الآن، نحن نختنق لأن الميزانية الموعودة لم يتم صرفها ». أما السبب الوحيد الذي دفعنا إلى البقاء رغم كل هذه الصعوبات، فكان للرد على نداءات استغاثة الصحافيين من جميع أنحاء العالم. والآن، نجد أنفسنا عاجزين عن مساعدة الصحافيين الذين اضطروا لمغادرة وادي سوات، في باكستان، وعائلات الصحافيين الذين اغتيلوا في الصومال، وزملائنا المضطهدين هنا وهناك.
صوت العقل، الصادر عن موظف الأمم المتحدة، كان يقول: «يجب أن تليّنوا موقفكم. فإذا غضضتم النظر عن المسائل المزعجة، فإنني على ثقة أن الأمور ستترتب ». لا شك في ذلك. ولكن أي صدقية ستكون لنا؟ أنهينا شرابنا وعدنا إلى السيارة. في طريقنا، مررنا أمام الفيلا الضخمة التي استأجرتها الأمم المتحدة، فيما كان صديقنا يشرح لنا برنامجه الطموح لتنظيم محاضرات وندوات حول حقوق
الإنسان. خطابات وحلوى. النجاح سيكون مؤكداً. لاحظ تشكيكنا، فأضاف: «أنها دولة بالكاد عمرها 40 عاماً، يجب أن نترك لها الوقت .»
أدليت بعدد من المقابلات لصحافيين قطريين وجدوا على ما يبدو، أن نزاع المركز، الطويل، كان مسلسلاً ممتازاً. الأسئلة ذاتها في كل مرة. على صعيد شخصي، كانوا دائماً يسألونني لماذا أدين الرقابة في الدول العربية، ولماذا لا أهاجم إسرائيل بضراوة أكبر. كان من العبث التذكير بأن منظمتنا تلاحق الدولة العبرية أمام محكمة الجنايات الدولية في أعقاب عملية الرصاص المسكوب، وأننا لم نكف عن إدانة التعتيم الإعلامي الذي فرضه الجيش الإسرائيلي خلال هذا الهجوم. كما أنه من العبث الإشارة إلى أن الصحافة الإسرائيلية تتمتع بحرية أكبر من الحرية التي تتمتع بها في قطر وفي معظم الدول العربية. لقد قام حوار يشبه حوار الطرشان، ويشبه الحكمة التي تتحدث عن «القشة في عين الجار ». فهذا المنطق القصير النظر، كان، إلى حد كبير، منبع ومحرّك الصراع الذي يمزق الشرق الأوسط منذ 60 عاماً. إنني أشكّك خصوصاً في صدق محاوريّ القطريين حين يتظاهرون بالحماسة
الشديدة للدفاع عن القضية الفلسطينية. لا أريد هنا أن أقلل من شأن الهلع الذي تسبب به القصف الموجه على السكان المدنيين في غزة، لكنني أجد «مبالغة » في هذه التصريحات الطنانة والاحتفالات والمهرجانات العديدة، «تضامناً » مع الشعب الفلسطيني، فمن السهل ذرف دموع التماسيح، والضرب على الصدور من أجل «الإخوة » في غزة، خصوصاً، أو في رام الله.
لكن إمارات الخليج الغنية عموماً، وقطر خصوصاً، لا تبدي أي استعجال حين يتطلب الأمر وضع دولاراتهم لخدمة إقامة دولة فلسطينية، فقد لفتت الأمم المتحدة عدة دول عربية، مؤخراً، إلى وجوب الوفاء بتعهداتها، التي لم تحترمها، لمساعدة السلطة الفلسطينية، وهي تعهدات قطعتها خلال مؤتمر باريس في ديسمبر 2007 . فرؤوس الأموال الغربية هي التي موّلت، ولا تزال تمول البنى التحتية
وتؤمن رواتب موظفي السلطة الفلسطينية. في الواقع، مضت عقود عدة على تظاهر دول الخليج بدعم الفلسطينيين، ولكن عن طريق مساعدة وتمويل الأكثر تطرفاً بينهم. من الصحيح أن الشرق معقّد، ولكن ذلك لا يجب أن يكون ذريعة لخداع الناس.__
تلقيت زيارة رئيس تحرير الصحيفة الناطقة بالانكليزية، Peninsula ، وهو شخص لطيف أكد لي عزمه على تأكيد الحقائق حول نشاط المركز. أكدت له أننا لسنا مسؤولين إطلاقاً عن وجود رئيس التحرير الدنمركي فليمينغ روز في الدوحة في الثالث من مايو، وأوضحت له أننا حين استنكرنا الرقابة على الانترنت في الإمارات العربية المتحدة، لم نكن نقصد الترويج للخلاعة على شبكة الانترنت،
بل على العكس، كنا نعرف أن هذه المواقع كانت سياسية، وعرضت عليه بالتفصيل جميع المنح والمساعدات التي تم صرفها من جانب المركز، لصحافيين ووسائل إعلام في ضائقة. وأعطيته نسخة من اقتراح تعديل القانون القطري حول الصحافة، الذي كنا طرحناه للنقاش على موقعنا الإلكتروني، وأبلغته أن ما من صحافي في قطر تجرأ على إغنائه أو التعليق عليه.
سجّل محاوري جميع ملاحظاتي بدقة، وقال لي: «سوف أعلن أن قضيتكم عادلة، وأن الحملات ضد المركز ترتكز على اتهامات باطلة. لكن لنعد إلى البيان الذي استنكرتم فيه مجيء الرئيس السوداني عمر البشير إلى قطر. ما الذي دعاكم إلى انتقاد دبلوماسية الدولة بشكل مباشر؟ ». إن هذه القضية تلاحقنا بشكل دائم. أجبته بأن دور منظمات كمنظمتنا لا يقوم بأي حال على التدخل في السياسة،
فنحن لا نسعى إلى الإرضاء، ولا إلى الإغضاب. ودبلوماسية الأمير، بحد ذاتها، لا شأن لنا بها مطلقاً.
ولكن شأننا شأن بقية منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، فإن دورنا يتمثل بالقول وتكرار القول إلى المسؤولين السياسيين بضرورة وجود عدالة، وبعدم نسيان الضحايا، في هذه الجهة أو تلك. نحن هنا لنذكّر بأن الرئيس السوداني ملاحق من العدالة الدولية، وفي الوقت ذاته، بأنه جعل من حياة الصحافة في بلاده كابوساً. نحن هنا لكي نجد أنه من الشائن أن يسمح له أي كان، أمير قطر أو غيره،
بالإفلات من مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه عن محكمة الجزاء الدولية. ولكي نقول أن مشاركة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في هذه المهزلة ، أمر يخزي منظمته.
أشعر بأن حججي لم تقنع رئيس تحرير بننسولا Peninsula ، فهو يجد أن بعض الأمور تسير نحو الأفضل من دون التدخل فيها، وقد قال لي: «أنت هنا في قطر منذ بضعة شهور. يجب أن تتعلم وأن تفهم دقائق هذا البلد. فالهدف الذي تسعون إليه لا شك عادل، وأعتقد أنكم شرفاء وصادقون. ولكن ألا تعتقد أن إمكانات نجاحكم تكون أفضل إذا تجنبتم الصراعات، وأبديتم صبراً أكبر؟ »، بالتأكيد.
ولكن كما كتب رينيه شار: »من يأتي إلى هذا العالم دون أن يعكّر شيئاً، لا يستحق نظرة ولا صبراً .»
في الأيام التالية، لم أفاجأ كثيراً حين تبينت أن هذا الإنسان الطيب قد عدل عن نشر حديثنا.__
آخر مقابلة أجريتها في الدوحة كانت عبارة عن حديثً من جانب واحد، مثير للشفقة وممل. فقد شاء أحمد علي، المدير العام لصحيفة الوطن، التي اتهمتني بأنني قمت بدعوة «الشيطان شخصياً » إلى الدوحة، أن يلتقي بي، فوافقت، آملاً بسذاجة، أن نتمكن من مناقشة خلافاتنا. كان موعدنا في مكاتب تحرير الصحيفة. وكان برفقته مساعد لتدوين الكلام، كان يعامله وكأنه خادم. استمعت إليه بصبر وهو يقول لي ما كنت أعرفه، فهو لا يحبنا، ويعتبر أننا نشكل خطراً على المجتمع القطري. وأعرب
عن سعادته لقرار صدر قبل أيام عن مجلس الشورى، الذي اعتبر رئيسه، محمد بن مبارك الخليفي، أنه «من المؤسف أن يندس منافقون إلى المهنة، وأن يسعوا بكل قواهم إلى تلطيخ صورة البلاد، بتشجيعهم قيام صحافة غير مسؤولة ». وقد أعرب أعضاء المجلس الأربعة والعشرون عن أمنيتهم في فرض غرامة 300 ألف ريال ) 56 ألف يورو(، وعقوبة السجن مدة سنة، في حق الصحافيين الذين «ينالون من الأمير، والأمن الوطني، والدين والدستور .»
قبل أن أتمكن من التفوه بكلمة، بدأ «المدير العام » يتحدث عن نفسه مستخدماً صفة «هو ». إنه ألان ديلون الصحافة القطرية. فذكر أنه أصبح صحافياً في الواحدة والعشرين، ورئيس تحرير في الرابعة والعشرين، واخذ يتباهى بأنه يجسّد نوعاً من الصحافة المسؤولة والشجاعة. قال: «الأمير يرتعد من قلم أحمد علي ». بدأ السأم يدب في. ولكنه لم ينته، فهو يجد من المؤسفً أن يكون معظم الصحافيين في قطر من أصل أجنبي. المشكلة، بطبيعة الحال، أن الأجور في مهنة الصحافة ليست
مرتفعة كثيراً، وأنه يجب العمل كثيراً. وهو عكس طموحات غالبية القطريين. بعد 20 دقيقة من التفاهات، أدركت أنه لا ينوي طرح أي سؤال علي، ولكن يريد إسماعي درساً فقط. تعكّر مزاجي، وضاق ذرعي بسماعه. فقمت وتركته مع أحلامه المجيدة.

الفصل العشرون
ثمن الشعور بالذنب

نشرت صحيفة الشرق في 29 يونيو 2009 ، عنواناً يقول: «رحيل روبير مينار غير المأسوف عليه ». وأكد الصحافي جابر الحرمي، الذي كان قد اتهمني بأنني «خليع »، أنني «فررت دون أن أسدد رواتب موظفي المركز ». تلك ليست الكذبة الأولى. قبل أيام، التقينا بالشيخة موزة في باريس، حيث كانت برفقة زوجها في زيارة دولة، وأعطتنا موعداً في دارتهما الواقعة في شارع ريفولي. أتيت لأقدم لها استقالتنا، بحضور دومينيك دوفيلبان الذي وافق أن يكون وسيطاً بيننا. كانت على أناقة عظيمة، بقميص حريري، مكشوف الصدر، بشكل مستغرب من جانب عقيلة أمير. وقد استقبلتنا في صالون واسع يطل على حدائق «تويلري »، وقامت لتحيتنا، وأنعمت علينا بمصافحة طويلة شاءت منها التعبير عن اضطرابها من الوجهة التي أخذتها الأحداث. جلسنا على إحدى الكنبات المخملية الثلاث، التي ضمتها هذه الحجرة التي غطت جدرانها لوحات غربية.
جلست على كنبة أخرى، إلى جانب رئيس الحكومة السابق، فقالت لنا بانكليزية ممتازة: «آسف لعدم تمكني من تجنب مثل هذه الخاتمة. كنت أتمنى أن أحول دون ذلك، ولكننا أسأنا تقدير الصعوبات ». بعد فترة من الصمت، تابعت: «لقد قللنا من أهمية المقاومة ». قلت لها أنني لم أشك يوماً بصدقها، وبالتالي لست نادماً على شيء. ووافقتني على وجوب أن نكون فخورين بما أنجزناه، وبالمساعدات التي
تمكنّا من تقديمها لعشرات الصحافيين في جميع أنحاء العالم.
أما ما تبقّى، فهي عازمة على متابعة هذا العمل، وطلبت مني الاستمرار في نصحها. قالت: «إنني زوجة الأمير، ولدي واجبات في هذا الإطار، ولا أستطيع اتخاذ قرارات تهدد توازن مجتمعنا، ولكنني لا أنسى أن مهمتي هي التوعية ) ma mission est de réveiller certaines consciences ( ومساعدة
وطني على أن يكون بكليته في القرن الواحد والعشرين ». قلت لها أن مهمتها ضخمة. فابتسمت وأجابت، مؤيدة، أنها تملك الصبر الضروري. وقالت بإصرار: «هل يمكنني الاعتماد عليك للبقاء على اتصال، لمساعدتنا على تحريك الأمور قدماً؟ » ثمة الكثير من الجهد المطلوب. فقطر لم توقع أبداً على المعاهدة الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، ولم يتم تعديل قانون الصحافة، ولا يزال الصحافيون ممنوعين من تشكيل جمعية. لكن لا يزال هناك تفصيل يتوجب حسمه يتمثل في ضمان احترام جميع الالتزامات المالية التي قام بها المركز. حين بدأنا في تناول هذه المسألة، انحنت الشيخة موزة نحوي، وقالت: «لدي شعور بالذنب إزاء
كل ما تعرضت له، ليتني أستطيع أن أعبّر لك عن امتناني. إذا كان لديك إي مشروع كان، هنا أو في مكان آخر، كن على ثقة بأنني سأدعمه، وما عليك سوى أن تطلب »، فوجه دومينيك دوفيلبان إلي ابتسامة، بمثابة التشجيع، لكي أضع رقماً على طاولة البحث، فنظرت إليهما مستغرباً، وقلت: «لا شك أنه أسيء فهمي، فأنا لا أطلب أي حظوة شخصية، إن ما أريده يتمثل في الحصول على تعهد
من جانبك بتسديد فواتير ورواتب مساعديّ في المركز ». بدورها، بدت عليها المفاجأة، لا شك لأنها لم تشهد من قبل أحداً يرفض شيكاً ممنوحاً بهذا السخاء، فقالت: «سوف نعالج هذا الأمر، ولكن فكّر بعرضي، فأنا صادقة، وسأكون سعيدة إذا تمكنت من مساعدتك .»
أشارت الأميرة إلى مدير مكتبها، وطلبت منه الاتصال بالشيخ حمد بن ثامر، رئيس مجلس إدارتنا، الذي أقسم على التخلص منّا. تناولت السماعة، وطلبت منه بلهجة تبدو جافة، أن يقوم باللازم فوراً لتسديد الفواتير والرواتب. بدا وكأنه يماحك، في الطرف الثاني من الهاتف، فاستمعت إليه، وحركت شفتيها وهي تنظر إلينا، لإفهامنا أن ما يرويه لن ينطلي عليها، ثم كررت أن كل الأمور يجب أن تحسم من دون تأخير، لأنه من غير الممكن مناقشة أمر صادر عن صاحبة السمو.
تبادلنا الحديث لفترة، فيما أحضر لنا خدم البيت مشروباً من التوت، وحلويات خرجت لتوها من الفرن.
قدمت لها تهانيّ لمناسبة استقبالها في أكاديمية الفنون الجميلة، حيث شوهدت معتمرة قبعة المجمع. كانت فخورة بهذا الشرف. حين رافقتنا إلى الباب، كررت شكرها لكل ما قمنا به، مضيفة وهي تصافحنا: «سنلتقي قريباً جداً .»
قال لي دومينيك دوفيلبان، عند خروجنا من المبنى: «إنها تشعر بالذنب لأنها ساقتك إلى هذه المغامرة، لقد قالت لك ذلك، وكان بإمكانك اغتنام الفرصة لكي تطلب منها فضلاً ما ». كنت بعيداً جداً من فكرة كهذه، فقد عدت إلى باريس لأجد بعض السعادة مع عائلتي، وعاداتي، وأصدقائي. لا شك أنني سأعيش مغامرات رائعة أخرى. إن الفشل الذي أصاب مركز الدوحة لحرية الإعلام كان فشلاً ذريعاً
للشيخة موزة، وبشكل غير مباشر للأمير، ، أكثر منه فشلا لنا، إذ أنه سيضعفهما في مواجهة معسكر المحافظين. إن محاولة الانقلاب التي حدثت في الشهر التالي أثبتت ذلك، لذا يبدو لي من غير اللائق أن أسعى إلى قلب الوضع لصالحي، بالمطالبة بهدية ما، وقلت ببساطة لرئيس الحكومة
السابق: «إذا بدا لي أنها قادرة على دعم نضالات أخرى مستقبلاً، فسأعرض عليها الفكرة ». في هذه الأثناء، دبت الحركة بين الحراس ورجال الشرطة المكلفين حماية الأمير وعقيلته، إذ سيصل الأمير بين لحظة وأخرى. ترجّل جاك شيراك من سيارته، وتقدم لتحيتنا، وعانق دومينيك دوفيلبان، قبل أن يختفي في مدخل المبنى، حيث ينتظره شراب التوت في الطابق الثاني.__
الفصل الحادي والعشرون
نحن مناضلون
في مايو 2009 ، تلقيت في هامبورغ جائزة منحتها مجلة «شتيرن »، التي تكافئ جهودي خلال 23 عاماً على رأس «صحافيين بلا حدود »، والجهود التي أقوم بها، مع فريقي في الدوحة.
إنني منشغل البال بالصعوبات التي نواجهها، فكلما رن هاتفي الجوال، أتوجس أن يكون نبأ متاعب جديدة يسببها لنا أعداؤنا. فكل يوم، كان يصادف أن أقول لنفسي، أن كل ذلك لا يستأهل البقاء، فأنا أعيش بعيداً عن عائلتي، على غرار العديد من مساعديّ. إذ أن حياتنا في الدوحة، خارج إطار العمل، لا تقارن بما نعيشه ونعهده في باريس وغيرها، وفي ما يتعلق بعملنا،فان جميع الدلائل تشير إلى أننا
لسنا على الرحب والسعة.
حين صعدت إلى المنبر في هامبورغ لإلقاء خطاب الشكر، كنت أعلم رغم كل شيء، أننا كنا على حق في وجودنا هناك، مهما كان الثمن، ومهما تكون نهاية مغامرتنا.
تلك هي العبارات التي قلتها يومها، والتي لا أزال أؤمن بها:
«إننا مناضلون، نعم مناضلون، حتى لو بدينا ساذجين، مناضلون يعتقدون ويحلمون بعالم أكثر رأفة بالضعفاء والفقراء والمغلوبين.
لا يمكننا قبول العالم كما هو، لا يمكننا أن نوافق على أن يكون جزء من الإنسانية محروماً من المستقبل، لا يمكننا ذلك ولا يجب أن نسلّم به.
لهذه الأسباب نحتاج إلى صحافيين مستقلين وإلى صحافة مستقلة، لأن دور وسائل الإعلام هو، قبل كل شيء، أن تقول ما هو ليس على ما يرام، إن دورها يقضي بأن تثير الإزعاج، وأن تدفع الأمور، وأن تضع إصبعها على ما يؤلم.
قد تردون بأن «اتخاذ موقف » ليس من مهام الصحافيين. هذا صحيح في الصراعات السياسية، إذ يجب أن نضع مسافة مع هذه الصراعات، لكنني لا أتحدث هنا عن هذا الأمر، إنني أحدثكم عن الأطفال الذين يموتون من الجوع، وعن هذه الحروب التي تقتل مدنيين أكثر من العسكريين، وعن هذه الدول التي تعيش تحت أحذية أنذال حقيقيين، وعن الطغاة الذين ينهبون شعوبهم، الذين لا نزال
نستقبلهم في وزاراتنا وفي قصورنا الحكومية، دون أي شعور بالذنب.
أعني هنا أولئك الذين يجيبوننا بأن العالم هو على هذا النحو، وأنه لا بد من القيام بتنازلات. هذا صحيح بالنسبة للدبلوماسيين، إذ أن مهامهم تقتضي ذلك، وأنا أحترمهم، لكننا لسنا دبلوماسيين، وليس علينا اعتماد هذا الحذر، فنحن قادرون على الكلام، وعلى الإدانة من دون مواربة، ومن دون احتراس، ومن دون مداهنة.
لكن، قد تقولون لي، هل أدى نضالكم، وتعبئتكم، إلى تحسين وضع الصحافة؟ الجواب صعب. فإذا نظرنا إلى عدد الصحافيين الذين قتلوا والذين تم سجنهم، والذين أسيئت معاملتهم، والى وسائل الإعلام التي تخضع للرقابة والتي تم إسكاتها، من غير الأكيد أننا حققنا تقدماً. لكن، للمفارقة، فإن هذه الأرقام تشهد على وجود صحافة أكثر تململاً، وأكثر إثارة للإزعاج. كذلك لو أننا لم ننشط، في
ظل مآسي العالم، كما يعتقد البعض ساخراً، من أجل أولئك الذين تمكنوا، بفضلنا، من الخروج من سجون احتجزتهم لسنوات، لما كانت الآفاق هي ذاتها أمامهم اليوم.
أريد أن أضيف أنني أتولى اليوم إدارة جمعية موجودة في العالم العربي، وأريد أن أحذركم من وضع يغذي إحباطات الكثيرين، ويخلق ردود فعل، معادية للغرب، شديدة الخطر. إنه وضع ناشيء عن حالات جبن وأنانية، وأخطاء دولنا. إنني لا أتمكن من فهم، أو إنني مدرك تماماً، لماذا تستمر ديمقراطياتنا في
دعم أنظمة فاسدة ومعادية للحريات في العالم العربي. لماذا لا ندافع عن الديمقراطيين العرب، كما فعلنا بالنسبة للمنشقين في الاتحاد السوفييتي؟ الجواب للأسف واضح: إنه النفط، والغاز، وعقود التسلح. يجب أن نكون حذرين من هذا الوضع، ومن تضامن أعمى مع سياسة إسرائيلية تضع أمن الشعب اليهودي نفسه في خطر.
لقد فهمتم أنني أريد أن أقول لكم أمراً واحداً، لا يجب أن نستسلم أبداً. فإننا محظوظون بالعيش في دول حرة، رغم ما يقوله البعض، فلننتهز هذه الفرصة لكي نجند أنفسنا من أجل الآخرين، ولنقلع عن الكيل بمكيالين في استنكارنا، ولنتوقف عن التقزز الانتقائي، الذي يجعلنا ندين دكتاتورية «يمينية » في ميانمار )بورما(، ونسكت على ديكتاتورية «يسارية » في كوبا، أو أن نهبّ لنجدة أولئك الذين ينادون
بأفكار «لائقة »، ونتجاهل الآخرين، الذين يؤمنون بقيم مختلفة عن قيمنا. احذروا من هذا التعصب القديم القائل: «لا حرية لأعداء الحرية ». إنني أفضل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تذكّر دائماً بأن حرية التعبير تطبّق أيضاً على آراء «تصدم » جزءاً من الرأي العام.
أخيراً، إنني فخور ومتأثر بوجودي بينكم، وأود أن أوجه آخر كلماتي إلى أولئك الذين ندافع عنهم، الذين أدافع عنهم منذ سنوات. من أجل هؤلاء، نحن في حاجة إلى قناعات راسخة، وإلى أن نكون مسكونين بنوع من الإيمان. فكما يقول الفيلسوف الروماني سينيك ) « :)Sénèque إن عدم تجرؤنا لا يعود لكون الأمور صعبة، وإنما الأمور صعبة لأننا لا نتجرأ .
لسنا من ترجم الكتاب
نعم قام الجيش السوري الإلكتروني بنشر وتوزيع هذا الكتاب لكن يبقى السؤال
كيف حصلنا على هذا الكتاب؟
قصة «سراب وشيوخ يرتدون الأبيض » حصلت بالمصادفة البحت وذلك عندما
كان رجال الجيش السوري الإلكتروني يقرصنون البريد الإلكتروني لوزارة الخارجية القطرية حيث وقع بين أيدينا بريداً مرسلاً من سفارة حمد بباريس إلى الخارجية القطرية وفي هذا البريد المرسل على مدار ثلاثة أيام كتاب مترجم على مراحل وعنوانه: سراب وشيوخ يرتدون الأبيض.
وفي البريد المرسل يظهر جلياً حجم اهتمام إمارة حمد بهذا الكتاب الذي يعري
عصابة آل ثاني خاصة أن روبير مينار أحد مؤلفي هذا الكتاب كان يعمل بقطر
بصفته مديراً لمركز الدوحة لحرية الإعلام ولكن تم طرده لأنه اقترب من الممنوع
وتطرق إلى الحريات في قطر في ظل قمع الحريات من عصابة حمد المغتصبة
للسلطة في تلك الدولة الصغيرة.
ومن الجدير ذكره أن دولةً عربيةً واحدة، لم تجرؤ على ترجمة هذا الكتاب باستثناء
عصابة حمد التي ترجمته لنفسها ومنعت تداوله، فما كان منا نحن الجيش
السوري الإلكتروني إلا أن قمنا بنشر وتوزيع هذا الكتاب مجاناً لجميع متصفحي
الانترنت.
وفي الوقت الذي نشكر فيه مؤلفي هذا الكتاب لا يسعنا إلا أن نشير إلى أن
جميع حقوق النشر والتوزيع باللغة العربية غير محفوظة.
الجيش السوري الإلكتروني






  عدد المشاهدات: 4853

إرسال لصديق

طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: