March 29, 2018 12:49

نهاية الإعلام - بقلم : ادريس هاني

منذ وجد الاجتماع البشري اهتدى الإنسان إلى طرائق في التواصل والإعلام لا زالت تتطوّر إلى أن تمّ اكتشاف المطبعة في العصر الحديث وكان من الطبيعي أن تتطور الصناعة الإعلامية إلى اللحظة التي أصبح لها التأثير الكبير على المجتمع، فأقامت من أقامت وأسقطت من أسقطت، فسميت على إثر ذلك اليوم المشهود بالسلطة الرابعة..ومع أنها كانت سلطة رابعة إلا أنّ طلاّب السلطة لم يكتفوا بدخول الصحافة كشغيلة بل استعملوها في كسب سلط آخرى مما يؤكد أنها لم تكن سلطة إلا من باب المجاز وإنما كانت سلاحا للاستعمال بين السلط والقوى المتنافسة..لقد أسقط الإعلام زعماء دول بتأثير من المال الذي يبتلع الإعلام، لأنّ سلطة الإعلام هي ليست ذاتية بل هي عرضية، وهي مدينة في كل هذا للمال في مجتمع رأسمالي يستثمر في المعلومة الصحيحة والفاسدة على السواء..لكن الإعلام اليوم يساهم في إسقاط الحقيقة، وهو ممعن في هذه السياسة لأنّ الإعلام في حدّ ذاته صناعة لما جعلت له..وإذن هو عنوان مرحلة في معركة طويلة بين الحق والباطل ، وهي العبارة التي يشمئزّ منها الطابور الخامس في معسكر الإعلام الإمبريالي والرجعي، لأنها عبارة تقضّ الضمير المهني لذا تجدهم يتترّسون بمفهوم النسبية..ومذهب الطابور الخامس للإعلام المغالط في النسبية لا يشبه مذهب الفلاسفة والفيزيائيين، فهي نسبية تحتوي في باطنها يقينا بخدمة الباطل وعبادة لمطلق التضليل..فمن امتلك تقنية التضليل كان أكثر مهنية..فالمهنية في صناعة الإعلام المغالط تكمن في قوة الإقناع بالمغالطة، أمّا الحقيقة فلا تحتاج كل هذه التقنية لكي تصل إلى الجمهور كما هي..هذا الاجتهاد الكبير في تقنية الصورة وتقنية الخداع الذي بدأ في السينما واجتاح مجال الصحافة بما فيها المسموعة والمقروءة هو محاولة لتقويض رسالة الإعلام..وهذا ما يعزز رأينا في أننا نعيش نهاية الإعلام لأننا دخلنا مرحلة أخرى وجيل جديد من القهر الإعلامي الذي يستدعي نضالا من أجل العدالة الإعلامية التي تتقوّم بتحرير الإعلام من ديكتاتورية رأس المال ومن منطق السّوق..لا تملك الشعوب اليوم التحرر من الإعلام، فهو بات قي صلب الخدمات الضرورية والاستهلاك العمومي غير أنه بضاعة فاسدة تدخل سوق الاستغلال من دون رقابة أو سياسة لحماية المستهلك..
على الرغم من كل هذا التقدم في مجال الصناعة الإعلامية إلاّ أنّنا نرى أننا نعيش عصر نهاية الإعلام..فالمعلومة الصحيحة لم تعد هدفا لهذه الصناعة بقدر ما أصبح هدفها هو المتلقّي..بهذا المعنى هي صناعة الوعي الزائف لأغراض سياسية أو اقتصادية..المعلومة هي مادة أولى وجب إعادة توجيهها وبنائها داخل مختبر إعلام يتقدم في أساليب المغالطة..فهو مثل السياسة بات يشكل جزء من لعبة أمم..فكل مشاريع التآمر والغزو والتخريب تمرّ من هذه الماكنة..فالإعلام لم يساهم يوما في الديمقراطية بل كان هو سبب غيابها، لأنّ البيئة التي يتعذّر فيها بلوغ المعلومة الحقيقية وتخضع للتضليل الإعلامي لا يمكن أن تنتج ديمقراطية حقيقية..وقد أصبح من مفارقات إعلام المغالطة أن يتحدّث أكثر عن ديمقراطية يعمل ليل نهار على نسف جدواها ومبادئها التّاريخية..الطابور الخامس في هذه الماكنة هو الخصم الأول للديمقراطية، لأنه يساهم في التضليل وحرف الوعي وتعزيز ديكتاتورية الرأي الواحد..لقد تأخّرت الديمقراطية كثيرا بفعل هذا الخداع..لا يكفي أن يضع الطابور الخامس رجلا على رجل وهو يرسل تسطيحا حول الديمقراطية وهو يتواطأ مع مافيا توجيه الرأي العام بإعلام فاسد بنيويّا..فالذي يقتل الشعوب وينشر الإرهاب ويعزز الديكتاتورية ويتلاعب بالعقول هو الإعلام المغالط الذي يخدم الأجندات الإمبريالية والرجعية..
في هذا الإعلام فقط نستطيع أن نذرف دموعا كثيرة على مشاهد تقدم بتصوير دراماتيكي خلاّب، وأن نغضّ الطرف عن ضحايا لا بواكي لهم بفعل لعبة الصورة الموجهة والباهتة وفق تقنيات وجدل التأثير الإيجابي والسلبي..نتساءل: ما الذي يجعل الرأي العام نفسه يعبر عن مشاعر إنسانية هنا ويتعامل بمشاعر متوحشة هناك؟
ينظر الإعلام المغالط للرأي العام على أنّه زبون يجب أن يبسط عليه الهيمنة..تقنية إقناع الزبون كما في الماركوتين تقتضي إشغال الفراغات والهيمنة على الزبون بأن تجعله يسمع فقط ..إن ترك الفراغات للزبون أثناء التواصل يعطيه فرصة للتساءل والاختيار..فالتواصل هنا يجب ان يستمر من جهة واحدة، بينما على الزبون أن يسمع فقط ويسمع إلى أن يقبل بالبضاعة وهو ليس مقتنعا بها لكنه مضطر أن يقتنيها لأنه لم يعد أمامه خيار..هو ذا الأسلوب المتبع في إعلام المغالطة التي يقوم على التكرار ولعبة غسيل الدماغ..الرأي العام في هذه الصناعة هو زبون يخضع لاستراتيجيا الاقناع بالاستهلاك بل خلق مساحات استهلاك وهمية للسيطرة على المتلقي..الرأي العام إذن يخضع إلى أيديولوجيا الاستهلاك(ايديولوجيا الاستهلاك هنا بتعبير بودريار) بما تعنيه من إمكانية استثمار الوضعية السيكولوجية والاجتماعية وأيضا التشريحية(الدماغية) للمتلقّي..
لا يأبه الإعلام للحقيقة ولا يسعى لأن يجدد قناعاته، لأنه يشتغل لأجل أجندة ثابتة..عدو الإعلام المغالط هو نباهة المتلقي وأولئك الذين يعملون على إذكاء وعي الجمهور..لذا فالإعلام المغالط هو في حاجة إلى تدريب مستمر..بينما لا تحتاج المعلومة الصحيحة إلاّ إلى تقنية الإبلاغ وهي متاحة في عصرنا أكثر من أي وقت مضى..هي إذن حرب القناعات تستعمل المعلومة كسلاح..الإعلام اليوم ليس في خدمة المعلومة بل هو صناعة لحجب المعلومة..فالذي يهيمن على المشهد اليوم هو التحرير وليس الخبر..الخبر حر والتحرير مقدّس..وأمام هذا الانحراف التاريخي لمهنة الإعلام بات المتلقّي هو الضحية التي تستمتع بالقهر..بل إننا أمام رأي عام يأنس باستهلاكه لبضاعة إعلامية فاسدة..هو اليوم يبدو في نشوة تشبه نشوة العبيد..يعتقد أنه ممتلؤ بالخبر عارف بملابسات زمانه، بينما الحقيقة هي أنه معتقل في مراكز السيطرة على المعلومة وصناعة الزّيف..
هذا الإعلام المغالط هو المسؤول عن أسر العقل ضمن مفاهيم تمضغ ببلادة لكنها تصبح مهمّة بسلطة التكرار..هو المسؤول عن صناعة قادة أشبه بنمور من ورق..هو الذي يخلق ملهيات للمجتمع تصرفه عن النظر فيما وجب النظر فيه وإليه..هو الإعلام الذي يجعل من الغزاة ضحايا ومن الضحايا مجرمين..هو نفسه الإعلام الذي يفعل كل هذا بلغة الضمير وجمالية الصورة والمفاهيم التي كافح في سبيلها المناضلون..التقنية والتدريب اليوم المستمر يعني أن لا تترك شبهة ولا ثغرة تسقط الإعلام المغالط في فضيحة تحريف الحقيقة والتاريخ..بمعنى آخر أن يتدرّب "العملائيون" على استعمال لغة الأنسنة ومفاهيم الديمقراطية في اغتيال العقل وتحطيم ملكة الفهم..
في سوق الإعلام المغالط تواجه ظاهرة تهميش الإعلامي الذي لا يزال يعتقد بأنّ موضوع الإعلامي هو المعلومة وغايته هو إصالها للمتلقي..فما لم ينخرط الإعلامي في لعبة الخداع فإنه سيجد صعوبة كبيرة داخل البيئة الإعلامية التي تعاني من الديكتاتورية والاستغلال..
نهاية الإعلام هو شكل من لفت الأنظار إلى حقيقة إعلام شكل دائما وسيلة تحريف الحقيقة واستحمار الرأي العام والتآمر على الحقيقة لكي لا تصبح في متناول الجمهور..إنها بضاعة يجب أن تخضع لإعادة تصنيع وتعليب، تلك التي نسمّيها في زمننا المغالط بالإعلام المهني..
ادريس هاني:26/3/2018 



شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: