الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   مقالات

لماذا استهداف سوريا اليوم؟بقلم : ادريس هاني- المغرب

يسعى خصوم النّظام السّوري في الخارج أن يسوّقوا فكرة خاطئة ، مفادها أنّ أيّ موقف سلبي من التّدخّل الخارجي في المسّألة السورية يعني رفض الإصلاحات والتموقف ضد إرادة الشّعب السّوري. بالمعيار المنطقي هو ربط خاطئ لا محالة، لكنه بالمعيار الميديولوجي هو خداع سمعي- بصري يهدف إلى قطع الطريق أمام التهدئة. وطبيعي أن يصدر هذا الموقف على غرابته، لأنّنا أمام موقفين أحدهما فضّل الاستسلام للّعبة الإعلامية الفائقة التقنية والانتشار والتسليم بكل الكليشهات التي تقدّم اليوم تشخيصا كاريكاتوريا عن نشاط الجيش السوري ومواقف النظام كما لو كان هذا الأخير في منتهى الحمق والجنون لكي يمارس التصعيد المجاني في ظرفية شديدة الحرج، وبين موقف مبني على تشخيص أقل استسلاما لتأثير التصوير الهيتشكوكي حول ما يجري في سوريا ؛ موقف مبني على دراية بالكثير من الحقائق التي تجري على الأرض بعيدا عن شاشة الجزيرة وخيال المعارضة في الخارج. وحتّى هذا أمر قابل للتّفهم، لأنّنا لا ننتظر من معارضة دخلت مرحلة اللاّعودة في احتقاناتها وتصريحاتها ومراهناتها على الخارج إلاّ أن تقول كلّ شيء في النّظام وتضخّم في الأرقام وتبالغ في التشويه.

وحظّ المعارضة السورية من هذا كبير، لأنّ جميع وسائل الإعلام في الدّنيا مسخّرة لنقل وجهة نظرها الخيالية تلك. بينما من سوء حظّها أنّ النّاتو عاجز عن تنفيذ أحلامها في التّدخّل والتخريب. وقد اختارت هذه المعارضة طريقة: إذهب أيها الناتو أنت وربّك فحطّم النظام إنّنا هاهنا قاعدون في انتظار الغلّة قبل الانقضاض على الحكم ، والثمن واضح جدّا أن نمنحكم ما عزّ عليكم من السيّادة الوطنية وندخل سوريا في "كومة" إعادة التأهيل والإعمار، ونمنح إسرائيل فرصة للخروج من مأزقها التّاريخي. ولقد قلنا مرارا أننا لسنا في حاجة إلى الجزيرة كمصدر للحقائق اليومية التي تجري في سوريا، إذ أننا راقبنا الأمور عن كثب في ذروة الأزمة ووقفنا على الخداع واللعبة كما تنسج خيوطها في الداخل والخارج. فهل يوجد افتئات أكثر من أن تسارع معارضة غليون وغلمانه بنسبة الفعل الإجرامي الأخير إلى النظام من دون تحقيق وعلى أساس الظّنة؟! وهو التصور العظيم عن دولة القانون وحقوق الإنسان وأهمية القضاء التي تعدنا به هذه المعارضة غير الآبهة بخطورة ما يحدث اليوم على الأرض السورية. هذا في حين كانت ولا زالت المعارضة بهذا الاستقواء غير المسبوق بالخارج تمنح غطاء وتبريرا لقيام مثل هذه الأعمال الإرهابية التي تستهين بدماء الشّعب السّوري.

وفي هذا الإطار يستطيع المراقب لهذا الخطاب أن يقف على حضور مكثّف لكلّ المعاني التي تحيل على احتقانات ذات طبيعة رجعية أو طائفية قلّما تحضر فيها النظرة الاستراتيجية للصراع الدّائر اليوم تحت عناوين شتّى قد لا تقف عند استعمال الديمقراطية بل قد تمتدّ حتى إلى استعمال الخبز والماء والهواء في تمرير مخطّطات تقضم السيادة قضما أو تفرم الكرامة فرما. ويكمن الخطأ إن لم نقل الخطيئة الكبرى لهذا النوع من الربط اللاّمنطقي بين رفض التّدخّل والكشف عن الأهداف الخارجية للحملة ضدّ دمشق وبين العداء للشعب السوري، في أنّ المتباكين اليوم على الدماء السورية لن يتحرّك لهم جفن حينما تصبح المدن والقرى السورية تحصي قتلاها بالمئات والألوف والجملة فيما لو وطأت أقدام الغازي البلاد وباتت طائراته تقصف فوق الرّؤوس. فالغزو يأتي بقتل الأطفال وانتهاك الكرامة وهتك الأعراض والتخريب وهضم حقوق الإنسان والبيئة والحيوان. فأكبر دعوة ضدّ حقوق الإنسان هي الدّعوى التي تمجّد التّدخّل وتنشده.

وقد بات واضحا أنّ المتحدّثين باسم الشعب السوري قد أصيبوا بعمى الألوان حتى أنهم لم ينظروا إلى ملايين من الشعب السوري في ساحة الأمويين وسبع بحرات وساحة بغداد وسائر ساحات المدن والقرى السورية تهتف ضدّ التآمر على الوطن وتدعم الإصلاحات تحت سقفه المحروس بقوّة المنطق الممانع. المغامرون بأمن واستقرار بلادهم هم حفنة من همل السياسة أكبرتها شاشات الجزيرة وأخواتها بينما ملايين المتظاهرين السوريين يتمّ تجاهلهم وتحقيرهم ثم بعد ذلك نتحدّث عن الشعب السوري!؟ ويبدو أن الغباء هنا ضارب الأطناب؛ إذ لا أحد فطن إلى أنّ الناتو لو كان عازما على غزو دمشق لكان فعل ذلك منذ شهور، بل منذ سنوات ولا يحتاج في ذلك إلى توسيط الجامعة العربية نفسها. فإن كان الغرب لم يغز سوريا اليوم فلأنه يجد نفسه عاجزا عن ذلك نظرا للتوازنات الدّولية وخطورة الموقف مما يجعل الأمر مكلفا. وهو لم يفعل ذلك لأن قناعاته لا يأخذها من شاشة الجزيرة بل من تشخيص دقيق لرصيد النظام من الشعبية التي لا يمكن الاستهانة بها متى جدّ الجدّ. وقد تسقط بعض النفوس الضعيفة في ذلك اللون من التحريض الطائفي، لكن ما لا يمكن تجاهله في تاريخ سوريا هو أن قادتها دائما كانوا من طوائفها المختلفة؛ يوسف العظمة السّنّي وسلطان باشا الأطرش الدرزي وصالح العلي العلوي وعزّ الدّين القسّام الشيعي.... فالأمراض الطائفية والرجعية لا تستطيع أن تنمو في البيئة السورية أكثر مما تسمح لها به الفتن المتحرشة بسورية بين الفينة والأخرى عبثا. وهي أشبه بنبتة فاسدة لا تنمو إلاّ على هامش الحدث السّوري.

لقد فقدت المعارضة الخارجية التي تؤمن بالتّدخل الخارجي كل مصداقيتها ووطنيتها لأنها تدرك سلفا ماذا يعني التّدخل. فإن كانت تريد لدمشق خرابا كالذي لحق بليبيا، وهي تدرك أيضا أنّ الأمر سيكون في سوريا أعظم خطرا مما حدث في ليبيا، فستكون قد تخلّت عن آخر إحساس لها بالوطنية! ولا يزال قسم من المعارضة الشريفة التي رفضت التّدخل وآمنت بالإصلاح تشكل عنوانا حرجا إزاء أشكال المعارضات الأخرى اللاّمسؤولة، التي تشكّل جزءا من اللعبة الإقليمية والدّولية وترعى على اللوجيستيك الخارجي.

إنّ الاصطفاف الحقيقي مع الشّعب السّوري هو تجنيبه التّدخل الخارجي والدّفع به إلى مزيد من الانفراج والإصلاح والتوافق على صيغ في التغيير يأمن معها هذا الشعب ويبلغ مراده في التحرر الاجتماعي المشروع والدّيمقراطية والكرامة. فمادام أنّ النظام بات واعيا لمطالب التغيير وباتت الإرادة السياسية ناجزة لعدم التراجع في الانخراط في دورة الإصلاح وجبر الضّرر، فإن لا مخرج من خطر التّدخل واستباحة الأرض والإنسان السوريين إلاّ بتشجيع الحلّ السلمي والتوافقي. ولا عجب من أنّ دعاة التّدخّل اليوم في سوريا هم من ولول وبكى التّدخل العسكري في العراق قبل سنوات. ولو أنّك استبدلت سوريا بالعراق في مقالاتهم لرأيت عجبا. لكنهم اليوم لا يرون في التّدخل الخارجي سوى أمرا مشروعا وطبيعيا؛ وفي ذلك جنّدوا صحافتهم وفقهاءهم وسياسييهم. الدّفاع عن المجتمع السوري لا يلتقي مع الدعوة إلى غزوه. لقد باتت إحدى وظائف المعارضة السورية في الخارج ، تشويه الدّور القومي لسوريا والتقليل من أهمية مشروع الممانعة والتشكيك في مصداقية القائمين عليه. ويبدو خطابها في هذا الإطار شبه مرضي ومناقض لواقع الأشياء. ولذا لم تجد حرجا في أن تنقل معاناتها ، مع نظام صوّرته على أنه غير قابل للتغيير، من على منبر إيباك ومحافل دول النّاتو وهي تشحذ فرصا للتّدخّل بعد أن لم يعد ورائها ما تخسره ؛ الإفلاس هنا كبير.

خلال شهر رمضان، داخل قاعة شهرزاد بفندق شيبرد، قادتني الصّدفة لحضور مؤتمر صحفي نظّمته المعارضة السورية. لاحظت أنّ عدد كاميرات وسائل الإعلام تفوق عدد الحضور. قالوا كلّ شيء وهم يخاطبون أنفسهم. الرّخص في التحليل بلغ مداه. حينما طلبت مداخلة، حاول مدير المؤتمر ذو الملامح الأسيوية أن يتفاداني لسبب بسيط أنّه لم يألف وجودي، وبدأ يسأل بعصبية عمن أكون. أجبته أن هوّن على نفسك، فأنا فلان من المغرب لا داعي للخوف. وحيث أدركت أنه كان يحمل مشاعر متناقضة بين التّحدّي والرّعب، قلت له: على مهلك أنا من بيئة بعيدة وثقافة ديمقراطية لا شأن لي بهذه الأمراض، وحيث كنتم دائما تتحدّثون عن أنّ لا أحد يسمعكم ، قلت هذه فرصتي لكي أطرح بعض الأسئلة وأريد جوابا مقنعا منكم. كان هذا اختبارا لديمقراطية هذا الشّكل الهجين من المعارضة التي تسعى للتخفيف من احتقاناتها الشّخصية ولو بتخريب وطن بكامله. كان النائب البرلماني السابق مأمون الحمصي قد شرّق وغرّب في الاتهامات وآخرون قالوا في سوريا وحلفائها ما لم يقله مالك في الخمر. وبدا تبادل الوهم سيد الموقف. مداخلتي لم تسجّل في وسائل الإعلام التي جاءت لتؤدّي وظيفة خاصّة، أي أن تنقل وهم المعارضة الخارجية بطريقة غير ديمقراطية. قلت: ليس مهمّا مداخلتي ، لكنني كنت مخطئا إذ ظننت أنكم ديمقراطيين!؟ حاول الحمصي أن يتدارك الموقف وطلب الاعتذار من منشّط المؤتمر ، مبرّرا ذلك بأنّ الإخوة مكلومين. قلت لهم بأنّكم حينما تمطّطون الحديث ليشمل أطرافا أخرى إقليمية تكونون قد أسأتم إلى قضيتكم.

إنّ حديثكم عن وجود شبيحة للنظام من خارج سوريا لا يصحّ وقد حاولت شخصيا التأكد من ذلك بالوقوف على المكان الذي زعمتم فيه وجود معسكرات فلم نجد. كما أطمئنكم أنّ هذا لم يكن جزء من أجندة الأطراف المعنية. أو على الأقل لا تبنوا أحكامكم على الظنون. ثم كيف تزعمون التّعرّف على القناّصة الأغراب؟! فالقنّاصة لا يظهرون في العادة!؟ لقد كان من أخرف ما سمعت من الحمصي حديثا عن السفينة الحربية الإيرانية التي عبرت القناة لتصل إلى السّاحل السوري، بأنّها جاءت محمّلة مسبقا بعصي لقمع المظاهرات في سوريا!؟ تراجعت نبرة الحمصي مقدار 80 درجة، محاولا التركيز على أرقام وأحجام تصلح للدّعاية لا للإقناع، ومحاولا اكتشاف نبرة عقلانية غير تلك النبرة الشعبوية التي وجد لها داعما من حماس مجموعته. ولأنه أدرك أن مشكلتي لا تتعلّق بضرورة الإصلاحات بل تتعلّق برفض التّدخل الخارجي، قال كلاما أهدأ من الأول لكنه غير مقنع، لأنه لم يجبني عن سؤالي حول على دليلهم على تدخّل أطراف في النزاع كما نفى وجود مسلّحين قبل شهور من انفضاح أمر وجودهم. هي إذن البروباغوندا. بل حالة من البؤس السياسي والثقافي تجلت بصورة صادمة. الحديث هنا أشبه بحديث أطفال لا يدرون ماذا يقولون. ومذاقهم الدّيمقراطي لا يبشّر بخير. كان لديّ إحساس بأنّ غريزة التعنيف كانت على وشك الانطلاق، لولا شيء من الجبن انتاب منظّمي المؤتمر، لذا بمجرّد ما خرجوا من قاعة شهرزاد حتّى أطلقوا سيقانهم للرّيح و فرّوا من الفندق فرار حمر مستوحشة. أقول هذا لأنّني كنت أريد أن أنفرد بنقاش خاصّ وأطول مع مأمون الحمصي ومجموعته بعيدا عن أضواء الكامرات والمهيّجات الشّعبوية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث! أدركت حينها أن ثمّة أسلوبين في تطمين إسرائيل من نعومة الحكومة البديلة المفترضة؛ فليس بالضرورة أن نقدّم التّحية المباشرة لإسرائيل ولكن أن نشوّه المقاومة ونعاديها.

* * *
الحرب على سوريا هي إذن ذات نكهة خاصة. وإن كانت القوى الخارجية تخفي عجزها عن التّدخّل في سوريا، فهي لا تملك أيّ هدف آخر غير البلوغ بهذه الحرب القذرة إلى منتهاها. إنّ التّدخل العسكري ضدّ سوريا مكلف للغاية. وهو في نهاية المطاف يستدعي تدخّل قوى دولية وإقليمية حليفة لسوريا. وخصوصية الموقع السوري في مجال التحالفات يأخذ أهمية دورها الإقليمي شديد الحساسية والذي لم يضاهيها فيه أيّ بلد عربي آخر. إن سوريا تدرك أن رصيدها لا يزال عاليا نظرا لأنّ اختيارها الاستراتيجي كان كبيرا.

وهذا يعطي جوابا عن التساؤل حول ما إن كانت روسيا ستتراجع في موقفها الداعم لسوريا كما فعلت في العراق وليبيا. فهذان قياسان مع الفارق، إذ روسيا لحظة غزو العراق كانت في أضعف أوضاعها فضلا عن أن العراق لم يكن حليفا لروسيا بقدر ما كان حليفا حديث التّمرد عن الغرب. وهو الأمر نفسه بالنسبة لليبيا التي تعرضت لغزو من قبل الناتو بعد أن نسجت صداقات مع قادة ودول الناتو.

وأيا كان الأمر فإنّ تدخلا عسكريا في سوريا من شأنه أن يقلب الطاولة على الغرب ليحصد نتائج مغايرة. إن واشنطن تضغط كثيرا على إسرائيل حتى لا تدخل في نوع من الاستفزاز ضد سوريا. فهي تدرك أنّ أي معركة قادمة ضدّ إسرائيل ستغيّر من كل هذا المزاج المرتبك لشعوب المنطقة. فمهما بدا من هذا الارتباك فإن لا صوت حقّا يعلو على المعركة ضد المحتلّ الأساسي للأراضي العربية. ولا يزال هدف القوى الخارجية أن لا تمنح سوريا شرف هذه المواجهة. وتريد أن تضغط كثيرا على النظام للتخلّي هو نفسه عن القضية الفلسطينية ودعم المقاومة والتخلي عن سياسة الممانعة. وإن فعل ذلك يكونون قد نزعوا الفتيل الموصول ما بين الثورة والمقاومة. وهنا يسهل تبشيع ما تبقى أو إضعافه. فمستقبل الجماهير يحتّم أن يختار العرب بين مسألتين: الثورة أو المقاومة. وفي حال سقوط سوريا ونهاية الخوف من المقاومة فرضا، يمكن للغرب أن يساعد الجماهير العربية على إكمال ثورتها خارج منطق الصفقات بأن يأتي على ما تبقّى من النظم التقليدية.

إن هدف القوى الخارجية اليوم هو حشر سوريا في الزاوية الحرجة وتبشيعها دون حتّى إسقاطها. لأنّ إشغال المنطقة بالفتن هدف منشود لدى هذه القوى. إنّ للثورة المضادّة أساليبها وأهدافها وسياساتها. وأخشى ما نخشاه عن الثورات العربية هي أن تصبح تحت التّأطير والتّحكم غير المباشر لرواد الثورة المضادة. تستطيع أن تقف اليوم على مفارقة عجيبة وهي أنّ أهداف الثورة والثورة المضادة تلتقي عند منعطفات قلّ ما يتم الالتفات إليها. فللجماهير حدس وأحاسيس تقدم نفسها في شكل أفكار، لكن العقل لا ينفذ إلى أعماق رؤيتها للأشياء. فهذا هو الحدّ المتعارف عليه في سيكولوجيا الجماهير. كنّا نبّهنا منذ قيام الحراك العربي من خطورة الثورة المضادة لكن غلبة الحماس أدّى إلى حالة يتم الكثير من شباب الثورة الذي عاقرها بمشاعر رومانسية فيما الثورة المضادة كانت تعانق أقصى التفكير العقلاني.

لا يخفى أنّ مشكلة القوى الخارجية تتعلّق في المنطقة بقضيتين أساسيتين: النفط وإسرائيل. وهي غير آبهة بأي ثابت من الثوابت الأخرى في سياستها. فلا يوجد لديها صديق أو حليف عربي ثابت، ولا مصلحة غير المصلحتين المذكورتين. ولا ترتسم أي سياسة للمنطقة إلاّ على أساس حفظ الإثنين معا وأمّا ما عدا ذلك فهي أعراض لا تبلغ جوهر المصلحة الخارجية. وإن كنّا نعتقد أنّ الحراك الاحتجاجي العربي كان متوقّعا وهو ليس مؤامرة بالتأكيد إلاّ أنه كان لا بدّ أن يواجه بثورة مضادة ناعمة وماكرة تحتوي مفاعيله. كان الهمّ الأخطر هنا والخطر الأعظم الذي أربك الموقف يتجلّى في الخوف من تكامل الثورة والمقاومة. والقوى الخارجية المعنية بالهيمنة على النفط وحماية إسرائيل لا يمكنها أن تشجّع على الثورة العربية إن كان المقصود منها أن تلتقي ضدّ المصلحة الخارجية. لكنّها وبكل بساطة تقدّم دعما مسموما للثورة بينما تناهض المقاومة. لذا كان لا بدّ من عقد صفقة بين قسم من الإسلاميين التّابعين لبعض المحاور الإقليمية وبين القوى الخارجية المعنية بسيولة النفط وأمن إسرائيل، لتّمكين للثورة المضادة. وتكشف تلك الصفقة عن نفسها من خلال الوقائع المشهودة. ذلك لأنّنا حينما نطلّ على جغرافيا الثورات العربية نجدها خاضعة لمنطق هذه الصّفقة. لم يعد مزعجا أن تصدر عبارة ثورة من فم إسلامي اليوم حتى بالنسبة للنظم الإقليمية ، بل المزعج صدور موقف في القضايا الاستراتيجية الكبرى. فالثّورة فقدت شحنتها وعمقها بينما باتت المقاومة موضوعا مقلقا. ولهذا أدرك إسلاميو الصفقات أن الحل يكمن في تقديم خطاب مطمئن وهادئ عن القضايا الإستراتيجية وفي مقدمتها إسرائيل، ولا ضير في مواصلة الثرثرة باسم الثورة. وسيكون اليوم الميمون حينما تصبح الثورة اليوم ثورة ضد المقاومة والممانعة.

لذا ليس من غريب الخطاب أن يتحدّث قيادي في النهضة التّونسية عن أن لا إشكال في حزب بمرجعية إسلامية وقد ضرب مثلا عن ذلك بأحزاب اليمين الإسرائيلي ذات المرجعية الدّينية. وهو الحديث الذي يتناغم مع خطاب الغنوشي في أمريكا وإعلان حزب النور السلفي في مصر عن اعترافه بمعاهدة كامب ديفيد والتنسيق بين هذه الأحزاب والسفارات الأمريكية في بلادها. يحدث هذا الغزل في الفترة نفسها التي يتمّ فيه العمل الجاد على تهويد القدس ويتحدّث فيه المرشّح الجمهوري غينغرتش، عن فبركة الشعب الفلسطيني. لن تسمع من أكياس الرّمل الإسلامية المتهافتة على حكومات خاوية على عروشها أي موقف حقيقي ضدذ القضايا الكبرى للأمّة؛ وهذا هو الثّمن المدفوع سلفا!؟ هو الثّمن لأنّ هؤلاء لو كان جاؤوا نتيجة جهدهم الثّوري لما احتاجوا إلى الصّفقات. ففي تونس لم نسمع عن النهضة إلا بعد الانتخابات.

ولم يستقبل الغنوشي بملايين من التونسيين كما كان يفترض بمن يلهم ثورة ويملك ناصيتها. ولو كانوا كذلك لما فرض عليهم أن يتقاسموا الحكومات، لأنّ لا كرم في الاستحقاب والاستقحاب السياسي. وفي مصر تلكّأ الإسلاميون ستة أيّام قبل الانخراط في حراك 25 يناير ، ثم ما أن بدأت الصفقات حتّى تماهو مع المجلس العسكري واحتلوا في المليونية السلفية ميدان التحرير ، ثم منحوا بعدها فرصة للجيش كي يفرغ الميدان من طلائعه الحقيقيين. وفي المغرب لم تأت حركة 20 فبراير بالإسلاميين لأن عصائب البيجيدي وقفت ضدّها ولم تنخرط في فعالياتها. هنا الانتهازية والصفقات وركوب الأمواج والوعد ببيع السيادات والامتيازات لقاء أمر طالموا تشوّفوا إليه: السلطة والحكم!

تفجّر موضوع سوريا بشكل فاق جميع البلاد العربية. ولم يكن الأمر يتعلق بالاستبداد والقمع، لأنّ النظام السوري كغيره من البلاد العربية اتخذ قرار الإصلاح وعمل عليه من خلال البدء في إصدار المراسيم والدّعوة إلى الحوار. بينما الدّاعون اليوم إلى اللاّحوار لم يجرّبوا أن حاوروا النّظام حينئذ. أما من جهة غياب الديمقراطية فمثل هذا كان ولا يزال طبعا في السياسات العربية التي تريد أن تقيم الحدّ على النظام السوري. فلقد سكت النظام الدولي عن المجازر التي تحدث في بلاد عربية أخرى، ومنها دول تراقب اليوم سوريا وهي ترفض المراقبين في بلادها، وأخرى تراقب سوريا فيما آلة القمع لا زالت تحصد التظاهرات السلمية في بلدانها.

لقد كان من المنطقي أن تنهض حركة إصلاحية من داخل سوريا تطالب بالإصلاحات والتغيير شأنها شأن سائر الحركات الاحتجاجية. وليس في كل البلاد العربية كان المخرج هو إسقاط النظام. وبعد أن أقرّ النظام السوري المحكوم منذ سنوات بحصار اقتصادي وتحرش دولي بمواقفه السيادية، بأهمية الإصلاحات، لماذا ووجه بحملة استباقية تعرقل كل خطواته في طرح مشاريع الإصلاح على الأرض وعدم منح أي اهتمام إعلامي بحجم المراسيم التي قدمت في مجال الإصلاحات ليكون لا حل إلاّ بإسقاط النظام؟ ولماذا كان لا بد أن تمر المعارضة بالخارج من منابر ايباك والوعد بالبيع في عواصم دول يهمها كسر عظم النظام السوري ضغطا وانتقاما من مواقفه القومية. في سوريا توجد العقدة الأساسية للبلوغ بالثورة العربية حدود التناقض التام مع التحرر الوطني والمقاومة. لقد جاوزت خشيتهم المدى من مستقبل سوريا حينما أقرّ النّظام بالإصلاحات، لأنهم يخشون من سوريا ديمقراطية وممانعة في آن واحد. فاستبقوا إلى إعاقة الإصلاحات في سوريا بينما لا زالوا يقنعون الشعب اليمني بأن يحاور قيادته في مفارقة هجينة. الثورة فعل حماسي ومشاعري بينما المقاومة والممانعة فعل عقلاني واستراتيجي. وإذا كان من الممكن أن يؤثّر العبث بالصورة في مشاعر الجماهير، فإن المقاومة التي تحتفظ لنفسها بهذه الورقة في نهاية المطاف ، تدرك أنها هي الأقدر على التأثير في الشعوب العربية في اللحظة الأولى التي ينطلق فيها التّدخّل الافتراضي.

لقد كان المطلوب أن يرضخ النظام السوري ويحلّ معضلة التناقض بين الثورة والمقاومة بنهج اختيار سياسي جديد بعيدا عن المقاومة. لكنه صعّب المهمة على القوى الخارجية، فبات يؤدّي ثمن الامتحان الصّعب.الخشية من سوريا بأنّ يحسب الموقف القومي في رصيدها في زمن ما يعرف بالربيع العربي وبأن تسبقهم لتحقيق التكامل بين الثورة والمقاومة.ترى القوى الخارجية أنها نجحت إلى حدّ ما في أن تستغل القضية السورية ، لتسويق سوريا داخل ميادين الثورة على أنها قاتلة للشعب. ونجحت في أن تسيء إلى سمعة الجيش السوري لتفريغ رصيده من المصداقية في مواجهة استراتيجية قادمة. الحماسة اللانهائية لجزء قليل من المجتمع الذي تسهل إثارته وحجب الحقائق الكبرى عنه، وغباء بعض التيارات السياسية التي وقعت في شبكة الإغراءات والطموحات والأحلام السياسية،سهل المهمة على ملحمة التشويه. الغاية الأساسية في الموضوع السوري هو تبشيع صورة دولة رائدة في دعم المقاومة في نظر الثوار. وهذا ليس مجرد هدف من أهداف الثورة المضادة بل هو الهدف الرئيسي للثورة المضادة هو الوصول إلى حد تناقض الثورة مع المقاومة.

اليوم يسعى غوبلز العربي أن يتلقّف أحجية يعود مصدرها إلى الصحافة الإسرائيلية، حول زيارة سرّية مفترضة قام بها نائب الرئيس فاروق الشرع، يقترح فيها الروس أن يحل الشرع محل الأسد في العملية الانتقالية فيما يتم منح اللجوء السياسي لبشار الأسد. وهي أحجية هجينة تحمل رداءة أحلام اليقظة لدى إسرائيل والمعارضة السورية وحلفائهما؛ أي هذا ما يتمنّونه فعلا للخروج من المأزق السوري الذي وضعهم فيه صمود القيادة السورية وجيشها الباسل، والذي لا تكاد كلّ هذه الأطراف تملك تصوّرا عن مستقبل فشل كلّ هذه المخطّطات لتركيع سوريا!؟ يحدث هذا بعد أن حاولت أطراف نفطية إغراء روسيا بالمال، لكن هؤلاء الذين اعتادوا على شراء المواقف بالمال نسوا أن روسيا تملك استراتيجيا عظمى لا تشترى بالمال.كذّبت روسيا هذه الأحجية ، بينما كان من العبث أن تستبق الأمور إلى هذا الحدّ. فبشّار الأسد ليس مقطوعا من شجرة. ولو كان الأمر يتعلّق بنجاته الشخصية فذلك أمر أهون من إنجاء سوريا من التّدخل والتخريب. فثمّة عشائر ودول قوّية يستطيع أن يعيش فيها الأسد عيشة راضية وتحميه برموش أبنائها، وفاء لمواقفه البطولية. لكن كلّ هذا لا يعدوا أن يكون أحجيات ذات نكهة بليدة. فالمعيار اليوم عن قيام أو سقوط سوريا المستهدفة هو في قياس موقف الشعب السوري من خلال خرجاته المليونية، ومن خلال المواقف الصلبة لحلفائه. والذي يهمّه حقن دماء السّوريين هو الذي يدعو اليوم للحوار والتهدئة لا الذي يدعوا للتّدخّل ويتحدّث حديثا غير مسؤول

  عدد المشاهدات: 1706
 
طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: