قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن الأزمة السورية لم تعد مجرد أزمة محلية أو إقليمية، بل أصبحت تشكل تهديدا عالميا.
هذا التصريح المثير للتساؤلات يأتي بعد أقل من يومين فقط على تصريحات أدلى بها إردوغان، معيطا فيها انطباعا بإمكانية ارتكاب حماقة عسكرية في سوريا.
وترافقت تصريحاته منذ يومين مع وصلة من البكاء والعويل بسبب أن العالم ترك تركيا وحيدة في مواجهة داعش، وأنها غير قادرة على مواجهة أزمة اللاجئين بمفردها، وتحتاج إلى مساعدات أكبر من جانب الحلفاء الغربيين في القتال ضد داعش خاصة قرب الحدود السورية حيث تتعرض بلدة "كلس" التركية لقصف صاروخي متكرر منذ أسابيع.
هذا الخطاب "الديماجوجي" يأتي أيضا في ظل أزمة سياسية عامة في تركيا، وانقسامات في السلطة بهدف إبعاد جميع منافسي إردوغان عن المشهد السياسي، وإحكام قبضته على البلاد.
ما يشير إلى أن إردوغان يريد التغطية على أزمته وأزمة حزبه الإسلامي المحافظ من جهة، ويكتسب المزيد من التأييد الشعبي لاتخاذ إجراءات إضافية تضاعف من سلطاته وتمنحه سلطات إضافية.
لقد جنح إردوغان في تصريحاته إلى أن تركيا ألحقت خسائر فادحة بداعش، وأن ما تقوم به بلاده في مواجهة التنظيم الإرهابي لا تفعله أي دولة أخرى في العالم، مشددا على أن الخسائر التي لحقت بتركيا لم تتعرض لها أي دولة أخرى.
ومن أجل التأكيد، قال إردوغان إن بلاده "قتلت ثلاثة آلاف من عناصر تنظيم داعش في سوريا والعراق".
من الواضح أن إردوغان قد أعلن الحرب على الجميع، وبات يحارب على أكثر من جبهة.
وفي الوقت نفسه يدلي بأرقام وإحصائيات غير دقيقة من أجل بطولات وهمية وتصفية حسابات مع كل الأطراف.
فما هي بالضبط الخسائر التي لحقت بنظام إردوغان من جراء المواجهة مع داعش، أو بسبب اللاجئين؟
هل هذه الخسائر تتعلق بتورط أنقرة الرسمية بتجارة النفط مع عصابات داعش، أم تتعلق بتهور القوات الجوية بقصف القاذفة الروسية وقتل أحد طياريها؟
أم بتورط حزب إردوغان الإسلامي المحافظ الحاكم في تركيا في مشاريع عتيقة لدعم القوى اليمينية الدينية المتطرفة بهدف إحياء أحلام الخلافة والسيادة؟
تساؤلات كثيرة تحتاج ردود مقنعة من جانب إردوغان وأركان نظامه الذين أوقعوا البلاد في حالة من الفوضى وتفرغوا للحملات الإعلامية والدعائية وابتزاز الدول الأخرى تحت مزاعم مثيرة للسخرية، وتعطيل لمسيرة تركيا العلمانية وضرب مكتسبات الأتراك على مدى أكثر من ٧٠ عاما، وضرب المجتمع التركي عبر التمييز العرقي والطائفي.
إن التهديدات المتواصلة من جانب أنقرة لا لسوريا وحدها، بل لروسيا ولدول أوروبية عديدة، وللتحالف الدولي بقيادة واشنطن أيضا، كلها مقدمة لذلك التصريح الخطير الذي أدلى به حول أن الأزمة السورية "أصبحت تشكل تهديدا عالميا".
إن إردوغان لم يأت بأي جديد في حقيقة الأمر.
فالأزمة السورية اكتسبت بعدا دوليا لأسباب كثيرة ولحماقات كثيرة من كل الأطراف بلا استثناء.
ولكن هذا لا يعني أن تقف أطراف أخرى مكتوفة الأيدي أمام مطامع وطموحات أطراف أخرى.
فالسياسة الكبرى لا تحتمل الرومانسية والحديث عن الأخلاق، بقدر ما تحتمل الأفكار والتصرفات العقلانية والرؤى الناضجة لتقليص مساحة الأزمات وتحويلها من مواجهات عسكرية إلى مسارات سياسية.
ولكن إردوغان وحزبه الإسلامي المحافظ غير مقتنع بالفعل السياسي، وغير قادر في الوقت نفسه على فعل عسكري مقنع ونهائي وحاسم.
وبالتالي، فهو يعمل على توريط أكبر قدر من الدول والأطراف لتحقيق طموحات عفا عليها الزمن.
وإذا كان إردوغان يريد إلهاء الرأي العام التركي، وإعطاء انطباع بأن أنقرة لا تشهد صراعا على السلطة، فإن المسألة لا تحتاج إلى وضع سوريا في فوهة المدفع ووصفها بأنها "أصبحت تشكل تهديدا عالميا".
إن الأزمة السورية باتت أزمة دولية، ولكنها لا تشكل بعد "تهديدا عالميا" بفضل تحركات ناضجة من أطراف لها مصالح كبرى، وليس من مصلحتها إغراق المركب بمن عليه إرضاء لطموحات وأوهام بعض الدول الإقليمية.
وليس مصادفة أن ينفعل إردوغان كلما جرى الحديث عن إمكانية عقد لقاءات في جنيف لمواصلة الحوار بشأن سوريا.
فهو يدرك جيدا أن مسارات التفاوض تعمل على تهميشه وتهميش مشروعه، وتعمل أيضا على إضعاف دوره لا بهدف الإضعاف بحد ذاته، ولكن بسبب رؤاه السياسية المتطرفة وخسائره السياسية في الداخل والخارج وتعريض أمن تركيا لتهديدات تعود أسبابها لطبيعة نظام إردوغان نفسه وجوهر برنامج حزبه، وليس بسبب الإرهاب وداعش وكل تلك المزاعم.