الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   ثقافة و فن   

ابن تيمية .. وتشييده للعقل التكفيري / عبدالحكيم الفيتوري
June 20, 2014 13:30

كل الأخبار / الحوار المتمدن

نتابع مسيرة فهم تركيبة العقل السلفي(الحنبلي)في التاريخ عبر أبرز محطاته المفصلية الثلاثة(التأسيس-والتشييد-والانتشار)، حيث تناولت في المقالين السابقين ، محطة التأسيس والتي كانت على يد أحمد بن حنبل ، وفي هذا المقال نتناول محطة التشييد والتي كانت على يد ابن تيمية ، ونخص المقالات الآخيرة بمحطة الانتشار والتي كانت على يد ابن عبدالوهاب . ولكن قبل أن نولي وجههنا شطر المحطة الثانية(التشييد)على يد ابن تيمية، أود أن اشير إلى مسألة مفادها ، أن هذه السلسلة(مباحث في فهم أزمة العقل السلفي)، لا تتوجه إلى نقد الذوات،ولا الطعن في الأهليه العلمية ، ولا شطب التاريخ وصانعيه ، وإنما تتوجه في المقام الأول والأخير إلى قراءة البنية المعرفية عند العقل السلفي(الحنبلي)من خلال أصوله ومنهجه في التفكير والاستدلال ، ومعرفة ظروف تأسيسه ،وتصور ما كان عليه وما آل إليه أمره ، بغية تحليل ظاهرة العقل السلفي المعاصر ، وفهم مرتكزاته العقلية القياسية،والمساهمة في إعادة صياغته حسب أصول العقل المقاصدي الرسولي.

كذلك وقبل الولوج في صلب الموضوع لابد من التأكيد على أن ابن تيمية ( ت727) يصدق عليه المثل العربي القائل(فلان أشهر من نار على علم)،لذلك اترك ذكر ترجمته رحمه الله ومناقبه رهوا. فقط اشير إلى أنه يُعد من أكثر علماء السلف تأثيرا في الحركة الوهابية ؛ وهي التي تعتبر المحطة الثالثة في الفكر السلفي الحنبلي ، والتي سميتها بمرحلة(الانتشار)،والأخيرة بدورها قد ساهمت بصورة واضحة في تشكيل جل عقول أبناء التيارات السلفية المعاصرة(التقليدية-والجهادية-والحركية).

يتفق الكثير من القراء قراءة تمجيدية لمصنفات ابن تيمية بأنه يدين المنطق والكلام والفلسفة ، وأنه درأ تعارض العقل مع النقل .ولكن هذه الدعوة لا تصمد أمام قراءة نقدية ترد الفروع إلى أصولها ، والمفاهيم إلى انساقها المعرفية ،والتي تثبت بما لا مجال للشك فيه بأن فكر ابن يتيمة غارق في الكلام والفلسفة حتى أذنيه، وأنه بقي يتحرك ويفكر ضمن هذا الفضاء وكان مهموما بنفس السؤال الذي شغل الذين أتوا قبله ووجه لهم نقده الحاد ، هذا في جانب الغيبات . وفي الجانب الآخر فقد انتصر لفكر ابن حنبل في تقديم النقل عن العقل ، وأن العقل أداة نقل وتنزيل ، وليست أداة فهم وتأويل .علما بأن ابن تيمية قد تأثر بفلسفة أبي البركات البغدادي،وأبي الحسين البصري،ويعترف في مناسبات أقل بتأثير ابن رشد الفلسفي في فكره .

والذي ينبغي التنوية إليه بأن سبب اتفاق القراء التمجيديون على أن ابن تيمية يرفض الكلام والفلسفة ، وأنه قد درأ التعارض بين النقل والعقل ، ولكن كان وراء هذا الاتفاق التمجيدي خطابات وأساليب ابن تيمية ذاتها ، حيث يجد المدقق في خطابات الشيخ وأساليبه أن خطابه ينقسم إلى مستويين،مستوى سطحي يوافق الفهم الديني بصيغته التقليدية، وهو ما حمل الأغلبية الساحقة من قراء مصنفات ابن تيمية قراءة تمجيدية على ذلك الاتفاق .

أما المستوى الثاني يكمن في صيغة خفية خلف المستوى السطحي.ويبرز هذا المستوى السطحي في قضيتين اثنتين:الأولى في تأكيده على قضية اعتبرت تقليديه،وهي قضية صفات الله الخبرية تؤخذ كما هي بظاهرها بدون تأويل على عكس المعتزلة ومتأخري الأشاعرة الذين قبلوا تأويل الصفات التشبيهية.أما الثانية التي يُقرأ ابن تيمية فيها على أساس المستوى السطحي فقط،وهي مسألة إنكاره وهجومه على التفكير العقلاني في الإسلام والمتمثل بالفلاسفة والمتكلمين.ولكن هذا كله على المستوى السطحي،ولو نظرنا إلى مصنفات ابن تيمية لوجدناه فيلسوفا أكثر من الفلاسفة ومتكلما أكثر من المتكلمين.(1)

والغريب أن أتباع ابن تيمية ينقسمون قسمين إزاء خطاب الشيخ،القسم الأول:وهو الأوسع(السواد الأعظم)الذي لا ينتبه إلى هذا المستوى الخفي من فكره وينكر تماما أن يكون قد تحدث به أصلا.يمثل هذه الشريحة المدرسة الحنبلية،والحركة الوهابية،وجل (الجماعات-والجامعات)الإسلامية المعاصرة !!

والقسم الثاني،وهو فئة ضئيلة انتبهت إلى بعض هذه القضايا الخفية،وأدى بهم هذا التعرف على مسائله الفلسفية والكلامية إلى اعتبارها أخطاء من الشيخ يمكن إنكارها ورفضها أو تأويلها.وفي المحصلة فإن الفريقين يتجاهلان هذه المسائل ويعتبرانها كأنها غير موجودة في فكره.وبهذا المنهج التبريري يكون العقل السلفي(بجميع أطيافه)قد فرط في فرصة ثمينة في إحياء الفكر العقلاني المقاصدي الباحث عن سنن الكون ،وسنن الاجتماع ،وسنن الشرع المقاصدية ، خصوصا وأن القائل به قد حظي بما لم يحظ به مجتهد من أتباع ومذهبية واسعة .

ولا يفوتني الاشارة إلى أن ابن تيمية قد ساهم في خلط هذه المسألة على الاتباع ،حينما مارس لغة مزدوجة ،التهجم على المتكلمين والفلاسفة من جهة،والأخذ وتبني أشد الآراء الفلسفية جرأة في تاريخ الفكر الإسلامي من جهة أخرى.إن هذين المستويين من الخطاب جعلا منه خطابا صعبا وأدخلاه في الغرف المقدسة وغيبا النقد البرهاني له .وتعود صعوبة خطابه إلى عدة أسباب، منها،أن خطابه خطاب مناظرة ونقد،إذ قلما يجد قارئ ابن تيمية نصا إنشائيا يكتبه صاحبه ليقول شيئا يريد أن يقوله.إن أفكاره نجدها مبثوثة هنا وهناك في صخب حركة المناظرة والجدل. كذلك بسبب تعرضه لقضايا فلسفية عويصة تعكس معرفة هذا الرجل بالتراث الفلسفي السابق عليه؛وصعوبة هذه القضايا يأتي من مصدرين:فهي قضايا فلسفية من جهة،ومن جدتها وعدم اتفاقها مع الآراء التقليدية من جهة ثانية .

فمثلا تناول ابن تيمية لمسألة الجهة(جهوية الله سبحانه) فقد وجد ابن تيمية في نظرية ابن رشد حول جهوية الله دعما قويا لموقفه ، كما أن السمة البرهانية النظرية التي مارسها ابن رشد قد وجدت قبولا احتفاليا عنده وهو الذي لايفتأ يركز على دور العقل في البرهنة على قضايا الدين واتفاقه معهما .

فقد كان ابن تيمية يعتقد بأن إثبات جهوية الله سبحانه برهانيا هي الصيغة الملائمة التي تجيب على مشكلات دينية وفلسفية عدة ، ويتفق بقوة مع نظرية ابن رشد القائلة إن وجود الله في جهة لا يعني بأي حال من الأحوال أن الله يوجد في مكان ، الأمر الذي ينفي عن الله أي سمة من سمات الجسمية الخاصة بالأجسام التي توجد في مكان وتتحيز فيه .(انظر:درء التعارض)

وفي هذه المسألة كما في مسائله الأخرى يحقق ابن تيمية شعاره الكبير في توافق العقل والنقل من خلال توظيف ما يعتقده أقوالا للسلف من جهة والبراهين العقلية من جهة أخرى ، فهو يؤمن أن أئمة السلف في القرون الثلاثة ، كالصحابة ،والإمام مالك،والشافعي، وبن حنبل ،قد اعتقدوا بأن الله في جهة . وبغض النظر عن الطريقة التي فهم بها أهل السلف هذه المسألة فقد ذهب ابن تيمية شأنه شأن ابن رشد إلى التمييز بين الجهة والمكان .فالكون بالنسبة لابن تيمية كوكبي والله يحيط به من كل جوانبه،الأمر الذي يتضمن القول إن الله فوق العالم بصورة لا متناهية ، وهذه العقيدة ؛عدم الخلاء وعدم التناهي،هي التي انتصر لها ابن تيمية وفلسفى لها ابن رشد.(2)

وبهذه الفلسفة الرشدية كان يرد على الفلسفة الرازية القائلة(بأن افتراض الله في جهة العلو،يطرح مسألتين:إما أن يقال:لا نهاية لامتداد ذات الله من جهة العلو،أو يكون لامتداد ذاته نهاية.فإن كان الأول لم يفرض في ذاته نقطة ، إلا وفوقها نقطة أخرى . ولا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل،لا علو مطلق.وإن كان الثاني افترض فوق طرفه العلوي ،خلاء . فكان ذلك الخلاء أعلى منه ، ولم يكن علوا مطلقا).(3)

بقي لنا أن نشير إلى نقطة هامة قد تفسر إلى حد ما ظاهرة الإزدوجية المنهجية عند ابن تيمية ، حيث أدان المعارف الإنسانية من كلام ومنطق وفلسفة واستعملها ،وحاول رفع الإشكال بين تعارض العقل والنقل وانتصر للأخير . ففي مجال الغيبات نجد أنه قد استعان بالنظريات الفلسفية والكلامية في درء تعارض العقل والنقل ، وبيد أنه في مجال سنن الكون،وسنن الاجتماع،وسنن الشرع،إلتزم بأصول العقل السلفي القياسي،بتقديم النقل على العقل،ومقايسة حاضره على ماضي القرون الثلاثة الأولى،ولكن بطريقته المميزة وثقافته الواسعة التي ساهمت في تماسك منظومة العقل السلفي وشيدت من بناء صرحه المنهجي.ولعلي في المقال القادم أضرب بعض الأمثلة التي تؤكد على إلتزامه بمنظومة العقل السلفي وعدم خروجه عن عباءته الحنبلية !!

________________________________________

1-انظر انساق المفاهيم المعرفية التي استخدمها ابن تيمية في كتبه :كدرء التعارض ، ومجمل ومفصل الاعتقاد ، والمنطق ، وأصول الفقه .

2-انظر:درء تعارض العقل والنقل، والعقيدة الواسطية ،لابن تيمية

3-انظر: الأربعين في أصول الدين ، للرازي (نقلا عن ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي ، لعبدالحكيم اجهر)



  عدد المشاهدات: 1230

إرسال لصديق

طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: