الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   مقالات  

دمشق: الصعود إلى أعلى الروح / بقلم : جوي سليم
November 09, 2015 00:19

دمشق: الصعود إلى أعلى الروح / بقلم : جوي سليم

«إن مرة واحدة لا تحتسب. مرة واحدة هي لم يحدث أبداً».
..................................................................ميلان كونديرا

هل خجلتَ يوماً من ثقلك على الأرض؟ هل خشيت على مكانٍ ما من حجم جسدك وحركته؟ وهل تمنيت، رغم ذلك، لو كانت قامتك أطول لتشمل بناظريك أكبر مساحة ممكنة في محاولةٍ بائسة لمبارزة الوقت الضيّق؟
(1)
لماذا بدأت بالبكاء منذ العبور بجانب السوق الحرّة؟! ما هذه الرومانسية البلهاء! إنها جديدة يابوس، يعني أن هزّةً صغيرة من يد المستعمر كانت كافية لجعلها جزءاً من البقاع داخل الحدود اللبنانية.

احفظي دموعك حتى تصلي إلى أوتوستراد المزّة على الأقل، قلت في سرّي ساخرةً.
مئات الصور والقصائد والأغاني والألحان تختبئ في خزانة الذاكرة، وهي جاهزة للتسلل في أي لحظة إلى حيّز الوعي ولجرّ الدموع التي لا تفهم سببها ولا توقيتها.
للذاكرة منطقها الخاص، وبخاصةٍ في علاقتها بالأغاني. لماذا «لملمت ذكرى لقاء الأمس؟» دون غيرها، رافقتني طوال الـ 40 كلم منذ عبور الحدود؟ لعلّ وجه بسام كوسا وهو يستمع الى هذه الأغنية في الفيلم الذي شاهدته أخيراً هو السبب. أو قد يكون مجرّد وجود الأغنية في أسطوانة معرض دمشق الدولي عام 1960.
ها هي المزّة يقولون لي. أرفع رأسي فأنتبه إلى أن الدخول إليها يبدأ من أعلى، ثم نهبط شيئاً فشيئاً حتى ندخل المدينة. أقرّب وجهي من نافذة السيارة وأفتح عينَيّ جيداً، أحاول رفع درجات التركيز إلى الذروة، حتى لا أخسر تفصيلاً واحداً، يميناً، أو يساراً.
دمشق أخيراً.

يزداد خفقان القلب كلما تقدّمت السيارة. ساحة الأمويين التي أمضيت أياماً أجمّع صورها عبر الإنترنت وأدقق في زواياها وتفاصيلها. السيف الدمشقي ثم دار الأوبرا، وأشياء كثيرة لا أعرفها بعد.
قد لا يسعفني الوقت لشرح أسباب أنها الزيارة الأولى. لم أذهب إلى الحميدية في مراهقتي، ولم يشترِ لي والدي البوظة من عند «بكداش» ولم أتبضع مع أمي من محال الشالات والفضيات في الشام القديمة ذات صيف، مثلما فعل معظم من أعرفهم.
لكنني ــ واللهم نجّنا من «الاستشراق» ــ عشتُ الشام من دون أن أزورها. سكنتني قبل أن تطأها قدماي بسنوات. حفظت باكراً قصائد سعيد عقل السورية عن ظهر قلب، حتى بتُّ أعتقد أنها أجمل ما كتب في وصف أي شيء على الإطلاق. قد يفسّر هذا «الغلوّ» مشاجرتي مع أشخاص كثر عندما مات الرجل قبل سنة، لأنني رثيته. «خائنٌ»، يقولون.

ولكنه هو أيضاً من قال لدمشق: «منك ينهمر الصباح»، وهو من سأل: «أين في غير شام يطرب الحجر؟».

الرجل محظوظ لا شك.

صوت فيروز ودمشق، خير شفيعين له.
(2)
يخبرني صديقي كيف اعتاد أبناء بلدته الحدودية في عكار الجلوس في الساحة أو على سطوح البيوت والنظر إلى الأضواء في قرى ريفي طرطوس وحمص المقابلة لقريتهم الغارقة في عتمتها، بسبب انقطاع الكهرباء شبه التام.
أتذكر هذا الحديث وأنا أحدّق في أضواء قاسيون من شرفة الفندق ليلاً.

هذه مدينة تحت الحرب، يقولون.

لا تكاد تصدّق ذلك لولا أصوات المدفعية ليلاً وبعض الغارات الجوية نهاراً، ولولا الإجراءات الأمنية عند مداخل الأحياء، وبعض التعب على وجوه الناس.
ولكن ماذا يغيّر كل ذلك من حقيقة أن دمشق مدينة حيّة؟ قد لا يفهم البعض هذا الأمر.

ربما الآتي من بيروت وحده يعلم الفرق بين مدينة على قيد الحياة وأخرى دخلت في موت سريري منذ زمن.
لن تنجو من شَرَك هذه المقارنة.

سألني مرةً صديق سوري في رأس بيروت: كيف ترون السماء هنا؟ أعقب سؤاله تشديد على أنه يكره هذه المدينة، وتحديداً شارع الحمرا. تذكرت مرافعتي عن المنطقة، وأحسست بذنب كبير.

كيف دافعت عن الحمرا؟ كيف دافعت عن بيروت؟ كيف تحمّل الصديق كلامي، هو الذي كان يسكن وسط دمشق. يا خجلي منه الآن.

سوليدير؟ رأس المال المتوحّش؟ ما هي حجتي؟ كل ذلك لا يجدي نفعاً.

لا سماء في بيروت.

أما دمشق فكلها سماء.
مدينةٌ كأنها قرية كبيرة. عمارات منخفضة، طرقات واسعة، ومساحات خضراء.

مدينة وادعة خفيفة الوطء. تحنو على الناس وتشعرهم بألفة، أنت وحدك الآتي من بيروت تعلم قيمتها. أماكن تشعر بأنك عشت بها سابقاً وكأنها قطعة من روحك. مدينة تروي ظمأك إلى «حقيقة» بحثت عنها في أماكن كثيرة سابقاً. شفيفة كالماء، تنزل إلى القلب تبرّده. لعلّ ذلك هو سبب أن البحرات والنوافير أكثر ما يصادفك بداخلها.
والناس هنا، رغم كل شيء، لا يزالون «ناساً». كيف أتجرأ على التعميم؟ على الأقل هؤلاء الذين رأيتهم وتواصلت معهم. تلقائية وبساطة وطيبة. أين عدائية بيروت بأفرادها (لا ناسها) ومبانيها وطرقاتها؟ إنها بعيدة الآن مئات الكيلومترات. أتساءل لو كان في بيروت مكان بقيمة الجامع الأموي على سبيل المثال، كيف سيكون شكل محيطه؟ ستلزّمه الدولة لشركة خاصة، أجنبية على الأغلب، وتحوله إلى مساحةٍ جوفاء تجتاحها مطاعم ومقاهٍ ومتاجر تابعة لشركات عالمية، حيث كان النفَس ليكون مدفوعاً بالتأكيد. هل يُعقل أن يكون لدينا مكان كمقهى النوفرة مثلاً؟ «الأخلاق العامة» في بيروت لن تسمح بذلك.
(3)
دمشق أخيراً. ها أنت تخرج الصورة من مخيلتك وتستبدل بها الحقيقة. ها أنت تحياها الآن بكل حواسك، لتتأكد أن الحواس أبلغ من القصائد وأن الواقع قد يكون أجمل من الخيال.
بعد العودة تعرف سرّ تكرار تلك الأغنية في رأسك دون غيرها،
أكثر من أسبوع وأنت تلملم ذكرى دمشق في الهدب، وتحضنها في قلبك خوفاً من أن تغدرك الذاكرة وتمحو بعض التفاصيل مع مرور الوقت.
ماذا تكون دمشق؟
هي القدرة على بث روح في جسد آتٍ من بين حفنة من الأموات. هي الدرب إلى السحر والمعنى والحقيقة.
هي دموع امرأة اتكأت عليك من دون معرفة مسبقة لتخبرك عن ابنها الذي استشهد أثناء خدمته في عربين قبل عام. هي ملامح وجه الأم أثناء سردها تفاصيل يوم الفاجعة: «اتصل بي قبل ساعة فقط يسألني ماذا أعد للغداء، قبل أن تأتيه رصاصة قنّاص في رأسه». هي أن تنتبه فجأة إلى أنك تكاد تختنق من البكاء، وأن الهواء اختفى من المكان، وتتيقن أن حضورك عبءٌ ووجودك هنا وقاحة. أنت لم تخسر شيئاً في هذه الحرب. أنت آتٍ من مكان بعيد، تمتلك ترف مشاهدة من شارفوا على فقدان أبصارهم من شدّة ما بكوا الخسارات المتتالية.
هي أن تأسرك بعد مغادرتها أكثر مما كانت تأسرك قبل زيارتها، وأن تعلم بأنك ستبحث عنها في كل المدن الأخرى، من دون أن تعثر على ما يشبه الانتماء الذي أحسست به في دمشق 



  عدد المشاهدات:

إرسال لصديق

طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: