الأمل بالعمل



الأكثر زيارة
 الصفحة الرئيسية   ثقافة و فن   

من هنا.. وهناك – د. مدحت الجيار
February 03, 2014 12:16

من هنا.. وهناك – د. مدحت الجيار


بشرى أبو شرار كاتبة عربية- بكل معنى للكلمة- فهمها عربي لايقف عند مأساة فلسطين ولا مأساة العراق ولا مأساة أي بقعة بمفردها في الوطن العربي، بل وداخل هذه الرواية على الأقل تحمل بشرى هذا الهم العربي كله وتريد أن تقول من خلال هذه الصور والأشتات المجتمعات أن الهم واحد وأن ما يمارس في أي مكان يوازي ما يمارس في آخر، وأن ما يمكن أن نراه في خلية واحدة من خلايا الجسد يمكن أن نجده في كل الخلايا فما يحدث في بقعة عربية واحدة يحدث في كل البقاع العربية. الأمر الثاني أن بشرى كغيرها من الكاتبات تمزج ما بين السيرة الذاتية وتفاصيل كثيرة جداً من الذاكرة، ابتداء من الطفولة حتى آخر رمق كانت تكتب به هذه الرواية وتستدعي تداعيات الصور والمواقف ومشاهد وأحداث وشخصيات تبني بها هذا الهرم الروائي المهم الذي أسمته من هنا وهناك. ثالثاً إن هذا العنوان الدال الذي بالفعل قادني لفهم هذه الرواية، لأن الهنا متعدد والهناك متعدد، الهنا لحظة الكتابة والهناك الذاكرة والتاريخ. الهنا الحياة التي نحياها والهناك المقابر والشهداء والموتى، الهنا ما يحدث الآن في الثقافة العربية، والهناك ما كان يحدث بالفعل في الثقافة العربية، فهنا لا تقف عند الإشارة إلى مكان، وهناك لا تقف عند الإشارة إلى مكان ما، بل هنا مجهلة وهناك أيضاً مجهلة، لتجتمعا حول الظرفين حوادث وشخصيات أمتلأ بها هذا الكتاب أو هذه الرواية إلى درجة جعلتني أخطط على أسماء وأسماء أحياناً حينما كانت تنتهي سيرة شخصية ولا تستمر في الرواية أنسى أنها موجودة حتى تذكرني بها بشرى في بعض المشاهد الأخيرة من الرواية. رابعاً تكتب بشرى كما كان يكتب حنا مينا بقايا صور بمعنى أن من هنا وهناك بالفعل بقايا صور من الماضي وبقايا صور من الحاضر وأيضاً هناك اتكاء على التجربة الخاصة لبطلة هذه الرواية جميلة التي يمكن أن نستشف من خلال معرفتنا بجميلة في الرواية وتاريخ بشرى خارج الرواية أن الشخصيتين تتوازيان وتتقاطعان أحياناً وتفترقان أحياناً أخرى لعمل نوع من المفارقة وعمل نوع من التبعيد بين النص في ذهن المتلقي عن أنها سيرة ذاتية، وان انصرف ذهن المتلقي عن إن هذه الحوادث قد حدثت بالفعل ولهذا نقول أن من هنا وهناك سرد متخيل يبنى بناءاً صعباً جداً، لأنك لا تستطيع أبداً أن تأتي بهذه الأشتات لتنتظم في سلك واحد، وتخرج بهذه الرواية المتماسكة بهذا القدر من التماسك الذي أعترف أنه اتعبني وأنه نشط ذاكرتي أحياناً وأتعبها أحياناً أخرى. هناك شخصية رئيسية لها أم وأخ ولها ابنة وابن، وهناك في البعيد البعيد مدينة تقع على المتوسط تسمى غزة ومدينة تقع على المتوسط تسمى الإسكندرية. وكان يا مكان... أن كانت هناك جميلة تحب فتاها في غزة وغاب هذا الفتى حتى ألتقيا مرة أخرى في مكان مشابه في ظروف متشابهة بعد أن تغيرت جميلة وتغير هو إلا أن جميلة في هذه الرواية نوعت في أشكال هذا المحبوب في أشكال هذا الرجل الذي تشظى في شخصيات كثيرة ربما أستقطب عثمان الحد الأكبر من هذه الجزيئات ومن هذه الأشتات ومن هذه الجذاذات وبالفعل كما يقول "بيير ميشوري" وهو من النقاد الإنجليز المهمين: "إننا حين ننظر إلى المرآة المكسورة.. نرى الأشياء في أكثر من موضع قد نرى عيناً هنا وحاجباً هناك.. وقد نرى الحاجب يتكرر والعين تتكرر، قد نرى الشخصية المنقسمة على نفسها، وقد نرى ربعها أو خمسها، وأحياناً نراها مصغرة في إحدى قطع الزجاج وأحياناً نراها مكبرة.. ولكنها ذات الشخصية زجاج معشق أتى بهذه الكاتبة إلى هنا لنقول عنها إنها استطاعت حقاً من هذا الزجاج المنكسر المتشظي أن تصنع شظية روائية بالفعل تخترق اجتهاد أي ناقد يحاول أن يتناول هذه الرواية بخفة أو يحاول أن يقرأها كما يقرأ الروايات المسلية. خامساً يسود هذه الرواية الحزن، ويتغلف هذا الحزن بمشاهد قاسية جداً عظام أطفال، وبقايا شهداء، وبقايا مقابر، وبقايا جروح، وبقايا رسومات، وبقايا قصص حتى أستطيع أن أسمي هذه الرواية بقايا قصص، هذه البقايا التي صنعت منها ربة البيت بشرى أبو شرار هذه الوجبة الدسمة من الرواية. والآن ندخل إلى الرواية.. خدعتني بشرى خداع جميل جداً لأنها وقفت عند المشهد الواحد والأربعين وكنت متخيل أنها ستقف عند المشهد ثمانية وأربعين. هذا الخداع نفى من اهتمامي الكاتبة قسمت وحدات الرواية حسب الحدث الجلل، حدث ثمانية وأربعين الذي أشارت إليه في الرواية وأعتقد أن وجود الرواية في ستة وأربعين مشهد ستة وأربعين وحدة كان أيضاً إشارة إلى تواريخ، هذه التواريخ ربما لا يأتي مجموعها ستة وأربعين ولا يأتي مجموعها أقل أو أكثر، بل كنت أتمنى أن يصل مجموعها إلى ظني. أجشهت بالنقد في هذه الرواية.. ولابد أن أحيي الرسومات والإخراج التشكيلي الذي أعانني كثيراً جداً على فهم ما وراء الحكايات، وما وراء البقايا وما وراء البنى والمواقف فكل وحدة لها رسوماتها وكل رسم حاول أن يلخص ما لم تستطع الكاتبة أن تبوح به، ولهذا أعتقد أن الرسومات الموجودة جزء من الرواية. ولا أستطيع أن أتعامل مع هذه الرسوم على أنها زخرفة زائدة أو نوع من النمنمة، ولكنها بالفعل إكمال بالفن التشكيلي لما أرادت الكاتبة أن تصل إليه، بل أن هناك من الرسومات ما ذكرني بأشياء قديمة تهتم بها بشرى في روايتها السابقة. ولكن هذه الرسومات جعلتني أحياناً أقف محتاراً حين أجد مثلاً رسماً فيه أبيات من الشعر، وأجد رسماً عليه نقوش فلسطينية، وأجد رسماً بالكلمات على الكوفية الفلسطينية والعلم الفلسطيني والألوان الفلسطينية الموجودة فيه، ولهذا فمن النادر أن يتعامل الفنان التشكيلي مع نص روائي بهذه الأهمية، أو أن يكون ما رسمه مهما كان عمره- واضح أن سنه صغير- فإنه قد استطاع بهذه الرسومات أو أن الرواية قد ألهمته أن يستكمل ما لم تبح به بشرى أبو شرار، وأيضاً أحياناً تطالعنا في الرسومات صور، نوتة موسيقية،طيور صغيرة بعضها مهاجر للشمال وبعضها متجه للشرق أو الجنوب أو الغرب، أجد في إحدى الرسومات طفلة تتسلق الهواء، وطفلة أخرى تهبط من السماء، كل هذا يثير فيَّ كناقد المستودع الفلسطيني داخل بشرى أبو شرار لأن ليس من العبث أن تكون إحدى الشخصيات في بداية الرواية وأكتملت أحياناً أن تكون اسمها موسى ولا يمكن أبداً أن أقف أمام بعض التسميات التي تشبه تسميات أشار إليها عبد الله هاشم تسميات من العهد الأكادي أو الكنعاني أو السومري لأن المنطقة واحدة وتراثها واحد. لكن تسرب هذا التراث الفلسطيني في الرسومات فحين تدخل للكتابة تأتي بهذا التراث الفلسطيني مجزأ وتأتي به حين يراد به أن يكتب لأن كثيراً جداً من عادات الفلسطينيين في هذه الرواية تدخل كلها في مجال استجماع الشمل في مقابل الشتات. ولهذا عبارات قاسية جداً داخل الرواية مثل كلمة "لاجئ" ومثل "حائر" و"جريح" مثل كلمة مصدوم، كل هذه الكلمات كانت تفاجئني في هذه الرواية مع هذه الرسوم، مع الاهتمام الواضح بلم الشمل الفلسطيني فأصبح لم الشمل يوازي محاولة لم بقايا الصور من الذكرى من الماضي، ولكن هذا الاهتمام العميق بمصر في الإسكندرية أو في القاهرة، يكتمل الشمل أحياناً في عمان، ويكتمل الشمل أحياناً في بعض المدن الفلسطينية كالجليل والقدس، لكن لم الشمل الدائم الذي ترجوه أحياناً إما في الإسكندرية وإما في القاهرة، وفي المدينتين لا يجمع شمل العرب إلا الثقافة، وبالتالي تجمع بشرى هذا بالمؤتمرات والاسماء والندوات لم تترك ندوة أو مؤتمر يشار له بالبنان في مصر إلا وأشارت إليه ابتداء من ندوة قصر التذوق، ومركز الإبداع، وندوة الإثنين بالأنفوشي، ومراحل طويلة جداً من الإشارة إلى مؤتمر الأقاليم، ومؤتمر الرواية في المجلس الأعلى للثقافة، وبعض المؤتمرات في القاهرة، وبعض الندوات التي حاولت أن تؤرخ لها داخل هذا الكتاب. لكن هناك إشارات غاية في الذكاء والإلغاز أحياناً.. إنها تطرح اسماء روايات بلا حساب روايات عربية وروايات روسية وفلسطينية بالطبع، لأنها استغرقت في حب إميل حبيبي في بعض السطور.. وهناك إشارات ملغزة، ولكن بعد أن تلغز بالإشارة يختفي ما أنا متوقعه فمثلاً الإشارة إلى القمر بوبا، والقمر بوبا هذا أيقونة نوبية لكنها أيضاً اسم لمجموعة لإبراهيم فهمي وكنت أتخيل أن القمر بوبا ستدخل إلى مشكلة النوبة أو ستدخل إلى إبراهيم فهمي أو ستدخل إلى ذكريات في البستان أو في ندوة ثقافية.. اشارات مهمة جداً إنها تشير إلى بعض الكتاب المجيدين في الإسكندرية.. تشير إليهم باهتمام واحترام شديد جداً ولم تهاجم أحداً طوال هذه الرواية بل على العكس كانت السمراء تخلق جواً من الموائمة وجواً من الصراحة، ولم الشمل أيضاً داخل هذه الندوة. هناك تقنية مهمة جداً داخل هذه الرواية هي تقنية الحلم، الحلم بكل معانيه، الحلم في النوم وفي اليقظة، الحلم بوطن مستقر، الحلم بأن الأولاد الطالعين قد أخذوا مكاناً تحت الشمس. وتشير في بعض اللحظات إلى قضايا مثل قضايا حرية التعبير وحقوق الإنسان، لكنها لم تهاجم نظاماً عربياً بعينه ولم تهاجم سياسة عربية بعينها بل على العكس كانت تطلق العنان لهذا الخيال ليوحد كل هؤلاء الناس، مع تذكرة بضرورة القضايا الملحة التي يجب أن تراعى في هذا الوقت بالذات، ومع هذا الشتات الكبير. على سبيل المثال "نامت جميلة" وبالمناسبة فالتقنية التي سأتكلم عنها بعدها هي تقنية التصوير أو اللغة المجازية الشعرية التي تعبر بها بتلقائية- هي لا تأتي في مشاهد محددة لتصعد من لغة عادية مباشرة إلى لغة تصويرية مجازية، بل هناك إيقاع في الكتابة وهو الذي يولد هذه التقنية المجازية. سأذكر نموذجين منهما (ص9) "نامت جميلة.. سافرت في منامها بعيداً.. دخلت أمها حجرتها.. تأملتها طويلاً وحين عادت من نومها وأقتربت منها تجلس على طرف سريرها هامسة لها بنيتي رأيت طائر الأحزان فارداً جناحيه على قسمات وجهك في غفوتك.." وقد يجئ الكاتب في لحظة فيها غرابة وفيها حب وعشق فيها مناجاة لرفع اللغة ليبقى السطر الذي قبله مباشر والسطر التالي مجازي ولكن الإيقاع واحد في الرواية كلها. لا يوجد مكان ليس فيه إيقاع في هذه الرواية فهذا نوع من الإيقاع يترتب على طريقة الكتابة لأن الكاتب يسمع لنفسه وهو يكتب. هكذا كان يوسف إدريس ويحي حقي هناك إيقاع في الكلام ليس مجرد رص كلام بل هو ينتظر أثناء جلسة الكتابة إلى أن ترتفع مشاعره وأفكاره وروحه ويبقى في حالة الكتابة ثم يكتب. ولذلك اللغة طبيعية وتلقائية، سهلة، بسيطة ليس فيها تقعر. نرى مشهد آخر "لم تعد جميلة على نبرة الحزن في صوت راسم ولم تفهم حالته إلا بعد أن أفصح لها عن ضيقه عن أعمال الصيانة والدهان في بيته وأن اعمال الصيانة والترميم وطأتها ثقيلة عليه فكل شيء في بيته يصرخ في وجهه لوقف زحف الكتب التي تكاد تغرقهم جميعاً تحتل أماكن لهم قد تحتوى حاجياتهم مقتنياتهم خصوصياتهم وهناك يظهر لهم عثمان يتردد يومياً على بيت دون الباب والشباك ألواح خشبية تحمل مواد الطلاء.." نجد هذه التلقائية تتحول لمشهد شعري، هناك مشهد مؤلم آخر (ص295) "تزحف أمواج أمامها على سحاب مسافر يصاحبه عند كل مغيب.. زحف يزمجر في هدير لا يتوقف، أرخت نظارتها من على وجهها ونهضت بعينين مثقلتين تنظر الحالة أمامها مطبقة كتابها على راحتها المتشبثة فوق الصفحة لكي لا تتوه عن آخر صفحة من آخر سطر وقفت عنده.." يستمر هذا الشعر حتى نهاية الرواية. في النهاية تقول " تولستوي: الحرب والسلام": وكيف يموت الناس وما هي رائحة الجرحى.. وما هي رائحة الموت.. "بابلو نيرودا" المتحدي الهادئ لم يقطع الأمل من نجاة شخص ضل الطريق.. برحيلهم يطبق العالم عليها، مرخياً كآبة، تسدل ستائر الصمت والوحشة من حولها.. عادت جميلة وحيدة دونهم، ليس أمامها سوى النهوض، فلا زالت لديها أنفاس باقية.." هذا المشهد الأخير هو المشهد (ص9) "رفعت جميلة جسدها تحاول النهوض تتأمل حوائط حجرتها وملامح وجه حنون قريب منها، تود لو تسأل أمها: كيف كشفت عن حزني حين غافلتني لحظات النوم؟!! وأي حزن هذا الذي رأته؟! أم أن طائره جعل من قسمات وجهي عشاً ومأوى..".
إنها تحاول النهوض في البداية "رفعت جميلة جسدها تحاول النهوض.." وفي آخر الرواية "ليس أمامها سوى النهوض.." إنها كاتبة مع سبق الإصرار والترصد أن يكون الزمن مستديراً في الرواية، أن تأتي الجملة الأولى لترتد بك إلى الجملة الأخيرة والأخيرة إلى الأولى. ليس من العبث أن مشهد نوم جميلة الذي سيتكرر في مشاهد نوم كثيرة منها مشاهد نوم موتى ومشاهد نوم مرض ومشاهد نوم طفلة ومشاهد نوم جميلة نفسها والأم، ستجد أشياء كثيرة جداً، لكن أن تكون هذه البداية أن جميلة تحاول النهوض.. ولكنها ليس أمامها سوى النهوض بالطبع لا يأتي هذا إلا بوعي شديد جداً. لا أقول وعي فكر إنه عمل ميزان للرواية وأتى به في الآخر. هو عمل ليس محسوباً بالعقل، بل هو محسوباً بوجدان الكاتبة، هي أحياناً تأتي بفقرة ترص فيها عشرات الاسماء لفلسطينيين وتعبر عليهم وبعد ذلك تأتي العشر اسماء بعشر وحدات في الرواية. أهم وحدتين هزوا ضميري وحدة ماجد أبو شرار ووحدة ناجي العلي. لأن ماجد يمثل الماضي الجميل والبيت والألفة والأسرة والوطن المجروح، وناجي العلي الذي يبحث عن الطفل حنظلة. ابنتها في هذه الرواية، من الطفل حنظلة المشهد الأول الموجود فيه جماجم الأطفال المسحوقة والعظام الظاهرة في هذا المشهد المرعب في بداية الرواية. وهذا المشهد يتكرر إنها تقول على لسان تولستوي في الحرب والسلام رائحة الجرحى.. أنا أشتم رائحة الجرحى في الرواية كلها.. أشتم الموت والحزن والانفعال.. الحزن في الرواية كلها. لأنه حينما تختار بشرى أبو شرار اسم رواية اسم بطل مناضل لا يأتي مجاناً في هذه الرواية. لأنه بالفعل ست وأربعين وحدة تساوي ستة وأربعين مشهد من مشاهد حنظلة ومن مشاهد أبو شرار. لماذا يأتي الحوار عند بشرى قليلاً هذا لسبب واحد.. أي أحد سيكتشفه عند أي روائي.. الروائي العربي دائماً يكتب عن نفسه حتى لو كان يكتب عن الآخر. الروائي العربي يتكئ ويستند على ذاكرته الفردية والقومية، ولهذا يغلب عليها الروائي الوحيد القوي العليم بكل الأسرار ولا يتلون هذا الروائي طوال الرواية، هو العليم الذي يشهد ويكتب المشهد، يحدث ويكتب الحدث، لكن هي في الطريق تريد أن تقول أنا روائية مثل هذه الرواية، لأنه ليس من العبث أن أجد الأم لمكسيم جوركي، لأن هناك أم كبيرة متوعكة طوال الرواية وهناك أم صغيرة متوعكة طوال الرواية وهناك الأم الماضي الوطن نفسه متوعك فحينما يجئ مرة مكسيم جوكي والأم ومرة ناجي العلي في حنظلة ومرة تستدعي تفاصيل من كتابات ماجد أبو شرار ومن مخطوطاته ومن الوثائق الضائعة لتلملم كل هذه الشظايا دون وله بمعنى! انها لم تقف ضعيفة أمام هذه الوحدات رغم أنها وحدات تخرج من أحشاء الذاكرة، من عمق الذاكرة. لأنني تخيلت في مشهد ماجد انها ستبكي طول الوحدة لكنها متماسكة، في مشهد ناجي ستسقط وقفت قوية جداً. لأنه ليس من العبث أيضاً أن يكون اسمها جميلة لأنها تتوازى وتتقاطع مع مناضلة جزائرية تسمى جميلة، وليس من العبث أن تتحرك الكاتبة ما بين جميع معسكرات اللاجئين في الوطن العربي لم يوجد لليبيا تونس الجزائر، رحلة طويلة جداً من الحركة ورحلة طويلة جداً من البحث لأن في هذه الحالة توازي الوطن مع جميلة والجراح اليابسات الموجودة قديماً تنكأ بأفعال حديثة مثل نكسة 1967، رحلة الرئيس، وفاة الرئيس، والدخول في مناطق صعبة في التاريخ الفلسطيني المعاصر.. دون أن تجرح كبرياء الوطن ودون أن تتهم أحداً بالخيانة في هذه الرواية بل على العكس كانت تقف مع الكثيرين وتبرر بعضاً من أفعالهم. أما عن الموت فنجد وفاة الأب داخل الرواية ووفاة ماجد ووفاة جمال عبد الناصر ووفاة ياسر عرفات هناك تقلبات في الذاكرة، لكن هذا يعني أن هناك مركز في الذاكرة، هذا المركز تخرج منه وتتواصل ثم تعود إليه.. تتواصل ثم تعود إليه.. مركز الذاكرة هو التوحد بين هنا وهناك. التوحد بين جميلة القديمة وجميلة الجديدة. التوحد بين الأم الكبيرة والأم الصغيرة. التوحد أيضاً مع ما يحدث من لقاء الأشقاء في بلاد ليست هي الوطن الأم. ذاكرة حديثة جداً ان كل فلسطيني يقابل فلسطيني يجري بينهما تداعيات اجتماعية وتداعيات في تاريخ الوطن والقضايا وتداعيات في العلاقات القديمة. في نهاية الرواية مليئة بالأحداث ولكني سأختار ما يناسب في النهاية فهي تقول أنا أعرف أننا العرب الحكاءون نجيد فن القص ولنا تاريخ من عيون التراث.. أذكر لك مثلاً حين سألوا خوسيه لو حدث أن أنقطعت عن العالم في جزيرة نائية ماذا تحب أن تحمل في رحلتك هذه قال لهم: ألف ليلة وليلة.. ليال كثيرة جديدة ومشاهد كثيرة جداً عن الليل والظلام تشبهه بقولها "راحة الظلام" خاصة جميلة حينما أرادت أن تختلي بنفسها وتطفئ الأنوار وتقول أن سكة نازلة من هنا.. وتحتضن الظلام وتغوص فيه لتعمل الذاكرة الحقيقية أن بشرى أبو شرار في هذه الرواية تثبت من جديد أنها روائية مطبوعة تكتب بتلقائية لكن مع تلقائية النحل الذي يغزل ويبني قصوره وخلاياه بانتظام عجيب لكنه تلقائي. أنا أحيي الكاتبة الكبيرة بشرى أبو شرار وأتمنى أن أقرأ الرواية مرة ثالثة وأتمنى أيضاً أن تكتب هي الرواية التالية.



  عدد المشاهدات: 961

إرسال لصديق

طباعة
شارك برأيك

الاشتراك بالقوائم البريدية
البريدالإلكتروني: